طالب عبد العزيز
لم تأت كراهية الدين من الدين نفسه، إنما من الاستخدام السيئ له. منذ العام 1994 الذي أعلن فيه رئيس النظام السابق صدام حسين حملته الإيمانية –معروفة الدوافع- وحتى اليوم الذي تم استخدام أو استحذاء الدين والإنسان والحياة المدنية في خطر. ولا يتعلق الامر بقضية منع وتصنيع والإتجار بالخمور، ووجود الكافيهات والبارات والمراقص الليلية حتى أبداً، إنّما بالتضييق الذي تمارسه السلطات على الإنسان، ومحاولة إشغاله بالتافه والنافل في سبيل تمرير عشرات المشاريع التي تصبُّ في مصلحة النظام، والاشارة الى أنها تأتي ضمن تعاليم الدين، وعلى وفق التشريع، وبناء على رأيّ الأغلبية.
كان الدين ومازال مطرقةً بيد الأنظمة السياسية، تدقُّ وتحطّم بها رأس خصومها، وتنتقم منهم، وتاريخنا العربي- الاسلامي حافل بجرائم الخلفاء والولاة والأمراء والخطباء، عبر الأزمنة المقيتة تلك، وليس كثيراً أنْ نستذكرما جرى للمعتزلة، وإخوان الصفا، والزيدية، والاسماعيلية، والخوارج بعامة والفرق الاسلامية الأخرى من تقتيلٍ ونفيٍّ وطرد باسم الدين والتشريع، وكلها تشير الى أنَّ هؤلاء إنما يشكلون الخطر على الدين، والوقوف ضدهم واجب شرعي، بل ومقاتلتهم فرض عين، وجهاد في سبيل الله، وهكذا يتم الأمر في غمط واضح للحقوق، وسط استغفال العامة، التي لا تملك إلا المباركة ورفع السيف.
المشكلة أنَّ ما جرى ليوسف الزبيدي، الموظف في إتحاد الأدباء، من إعتقال، قبل يومين، كانَ مستنداً إلى قانون واردات البلدية رقم (1) لسنة 2023 والمنشور بجريدة الوقائع العراقية بالعدد 4708 الصادر في 20 فبراير/ شباط 2023". حيث تنص "المادة 14" من القانون رقم (1) على "حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها". وبذلك يعدُّ الإجراءُ، من حيث المبدأ دستورياً، والمصادق عليه من البرلمان العراقي، وهنا سنسأل: هل كانَ البرلمان العراقي منذ تأسيسه الى اليوم مستنداً الى مصلحة الشعب؟ وهل كان أعضاؤه يمثلون الشعب بحقّ، بل وهل يعنيهم أمرُ الشعب بشيئ؟ إذا كانت الإجابة بنعم! وهذا ما نأمله، ترى لماذا لم يعمل البرلمان على استصدار قانونٍ يجرّمُ الفساد في العراق وسرقة اقتصاده ونهب ثرواته وقتل أبنائه؟ وإذا كانَ قد أصدرَ القوانين هذه، وهذا ما هو متحققُ بالفعل، ترى لماذا لم نسمع بقرار قضائيٍّ قضى بسجن عصابة سرقة القرن (نور زهير ومعيته) وإعادة المليارات المسروقة منهم؟ ولا حاجة لنا بإيراد أمثلة أخر.
الشعب العراقيُّ يعرفُ أنَّ عشرات ومئات القوانين التي شرّعها وصادق عليها البرلمان العراقي ما تزال حبراً على ورق، وأنَّ تطبيقها إنْ حصل يعني سجن النسبة الاكبر من رجال الدولة العراقية الحالية، منذ تأسيسها في 2004 –اليوم، لكنَّ ذلك لن يحصل، فهم من يملك إدارة وتوجيه دفّة القانون، إنْ انحرفَ باتجاههم، أمّا إذا سقطت مقصلته على الشعب فكلهم مباركون ومشاركون ووالغون في دمه، وإلا كم تبلغ درجة الضرر التي يتسبب بها انتاج وبيع وشرب الخمر بالقياس المليارات التي سرقت في وزارات الكهرباء والصحة والتجارة والدفاع والمالية والداخلية… بل ويجمع الشعب على أنْ لا وزارة ولا مؤسسة في الدولة العراقية تخلو من الفساد والسرقات والهدر بالمال العام.
عملت حكومات ما بعد العام 2003 وبشتّى السبل والتشريعات على إضعاف وتحطيم الحياة المدنية، لأنَّها تدركُ بأنها العقبة الوحيدة التي تقف في طريقها، وأنها تعرفُ بأنَّ ما تقوم به السلطات من إيهام للعامة إنما هو استحذاء للدين، ودريئةً ووسيلة لكل أنواع القهر والاستبداد. كانت القوى المدنية قد حذرت من ذلك التضييق في أكثر من مناسبة، وأنَّ السلطات الدينية لن تقف عند حدٍّ بعينه، إنّما هي تقرض المدنية، وتشوه تاريخ البلاد في التحضر، المتمثل بالفنون والآداب وفروع الثقافة وتعمل على تضييق الحريات.. وها نحن نشهد ذلك.
المخيف في الامر أنَّ المليشيات والفصائل المسلحة المتشددة كانت تقتحم وتقوض وتفرض إرادتها بقوة السلاح، ودونما سند قانوني، أمّا اليوم فهي تقوم بذلك استاناداً الى الدستور والقوانين. ألا بئس الدساتير والقوانين التي تهدم ما بناه الإنسان في مسيرته الطويلة باتجاه الحرية والمدنية.