المدى – تبارك المجيد
مع ظهور عامل "الترند" في مواقع التواصل الاجتماعي ووصوله إلى وسائل الإعلام التقليدية، بدأ الكثير من الإعلاميين وحتى القنوات التلفزيونية التي تعتبر رصينة، والشخصيات التي تمثل واجهة حكومية، بالخروج عن ضوابط المهنة لتحقيق عدد أكبر من المشاهدات. فما الغرض من سؤال فتاة تعرضت للاغتصاب عن تفاصيل الحادثة بشكل دقيق؟
ويتصدر بين حين واخر فيديو لشخص يروي حادثة تعرض لها، أو تحقيق لشخص قد يكون متهما او غير ذلك، ويرجع سبب تصدر الفيديو للأسئلة المريبة التي تُطرح من قبل الشخص المقابل. مثلاً، في أحد البرامج الاجتماعية التي تُعرض على التلفاز العراقي، طرح مقدم البرنامج سؤالاً أثار استياء الصحفيين والجمهور، حيث اعتبره الكثيرون انتهاكًا صارخًا لحق الضيف في الخصوصية وخروجًا عن ضوابط المهنة. كانت الضيفة فتاة (16 عاماً) تعرضت للاغتصاب، وتضمن الحوار أسئلة مثل: "هل ما زلت عذراء؟" و"هل ما زلت شريفة؟". هذه الأسئلة لم تكن فقط جارحة وغير مهنية، بل كانت تحمل في طياتها تلميحات وإيحاءات تحط من كرامة الضحية.
هذا النوع من انتهاك الخصوصية لا يقتصر فقط على الإعلام ومقدمي البرامج، بل يمتد ليشمل حتى الجهات الحكومية الأمنية. ففي موقف مشابه، ظهر المتحدث باسم وزارة الداخلية السابق بجوار إحدى الفتيات الراقدات في المستشفى ليشرح حالتها بعد تعرضها للاغتصاب. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت العديد من الفيديوهات التي يظهر فيها رجال الأمن وهم يصورون اعترافات الضحايا ومواقفهم بتفاصيل عميقة، مما يطرح تساؤلات حول الغرض والفائدة من طرح هذه الأسئلة ووضعها أمام الجمهور.
يشهد الإعلام العراقي غياباً للقوانين والمعايير الأخلاقية والمهنية التي تساهم في ضبط ما ينشر في وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفاز والراديو، وكذلك الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً لما ذكره الصحفي العراقي محمود النجار.
تحدث النجار لـ(المدى) عن وجود "بعض وسائل الإعلام العراقية التي تحاول القفز فوق "الترند"، مما يأتي على حساب مبادئ الإعلام، وأهمها احترام خصوصية الضحايا ومن تضرر بسبب الصراعات أو المشاكل الاجتماعية".
وعبّر النجار عن استغرابه من وجود قنوات إعلامية رسمية "تسقط في فخ الترند"، حيث يتم تصوير الضحايا وتغطية قضاياهم واستجوابهم بطريقة تحقيقية غير أخلاقية وغير مهنية، خاصة في القضايا التي تتعلق بالتحرش والاغتصاب والشرف والاتهامات الجنائية أو الاتهام بالتطرف والعنف دون وجود دلائل رسمية وقضائية. وأكد أن "بعض الإعلام الحالي يتناول هذه القضايا بطريقة غير احترافية وفوضوية للغاية".
وانتقد النجار بدوره الإجراءات المتخذة بحق البرامج التي تتوقف بسبب رصد خطاب طائفي أو غير ذلك من الانتهاكات، حيث يرى أن إيقاف البرنامج لمدة أسبوع أو أسبوعين دون إيقاف أو إنذار المحطة، أو محاسبة المحرضين، ليس كافياً. وأرجع سبب عدم وجود محاسبة حقيقية إلى أن "أغلب من يعتمدون هم من الشخصيات السياسية أو ممن ينتمون لأحزاب سياسية أو جماعات مسلحة، لذا لا يستطيع القضاء العراقي، ولا حتى البرلمان والسلطات المختصة، من ضمنها هيئة الإعلام، التحرك بسبب التدخلات السياسية والعشائرية".
وأكد النجار أن "هذا يدخل في انتهاك خصوصية وحرمة حقوق الإنسان، واختراق مبادئ الإعلام والصحافة العراقية، ومنها احترام خصوصية الأفراد عند تغطية قصصهم وعدم تصويرهم إلا بموافقة خطية أو شفهية مصورة". وأشار إلى أنه "يتم التعامل مع الضحايا كمواد دسمة للشهرة (الطشة) في سوق الخبر العراقي".
واختتم النجار تصريحاته بالقول: "يجب أن يكون لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية دور فعال في نبذ استغلال قصص الناس وجراحهم، وأن يكون لديهم تحرك قضائي وتواصل ومراقبة فعالة".
جبار بجاي، مراسل صحفي عراقي، يؤكد ما قاله النجار: "غياب الرقابة في العراق، يشكل سبباً رئيسياً في انتشار ظاهرة انتهاك الخصوصية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي".
وذكر لـ(المدى)، أن "الكثير من مقدمي البرامج والمراسلين يظهرون ببرامجهم على التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي مثل تيك توك دون أي رقابة. هؤلاء يسعون خلف الشهرة والإثارة على حساب خصوصية الآخرين دون أن يحاسبهم أحد".
وأشار بجاي إلى أن "العديد من البرامج التلفزيونية وبعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يمارسون انتهاك الخصوصية، خاصة على الفئات المهمشة مثل الفقراء، أو ضحايا الاغتصاب، أو حتى أفراد عائلات تنظيم داعش الإرهابي". وشدد مجدداً على "غياب الرقابة".
وأكد بجاي أن "الخصوصية اليوم تتعرض للاختراق داخل المجتمع العراقي"، محملاً سبب ذلك إلى "بعض الإعلاميين أو الصحفيين أو المدونين الناشطين الذين خرجوا عن العمل المهني والإنساني".
وأشار إلى استغرابه من طرح بعض الأسئلة من قبل عدد من الصحفيين قائلاً: "فعلى سبيل المثال، قد يسأل الصحفي الضحية عن تفاصيل تعرضها للاغتصاب، مثل كيفية حدوثه أو التفاصيل الدقيقة للواقعة. هذه الأسئلة لا تضيف شيئاً للمعلومة، بل تزيد من معاناة الضحية التي تصبح ضحية مجتمع كامل وليس شخصاً أو مجموعة محددة".
وأوضح بجاي أن "المشكلة تكمن في أن المساحة مفتوحة أمام هؤلاء الدخلاء الذين يسعون للحصول على التعاطف أو جذب المشاهدات للفيديوهات أو الصور بطرق غير مهنية أو حتى أخلاقية".
وعن تأثير غياب الرقابة، حذر بجاي من أن "غياب الرقابة سيؤدي إلى تدمير الفئات الضعيفة التي تتأذى نفسياً وجسدياً ومادياً". وأضاف: "السلطات الرقابية في العراق تغيب كالعادة، ويشارك رجال القانون في انتهاك حقوق الإنسان بشكل واضح. لا توجد مصلحة عامة تبرر تصوير هذه المشاهد، فهي فعل إجرامي ينتهك حقوق الإنسان ويعتدي على خصوصية وكرامة الأفراد".
وختم بجاي بالقول: "كصحفيين، نستنكر مثل هذه الأعمال وندينها حتى وإن صدرت من زملاء المهنة، كونها أعمال غير لائقة وغير مهنية وتخرج عن ضوابط العمل الإعلامي والصحفي. هذه الممارسات قد تقودنا إلى منعطفات خطيرة وتفكك المجتمع بشكل ما".
ولا تقتصر حماية حق الافراد بالخصوصية على الضحايا بل تشمل حتى المتهمين، يقول رئيس المركز الستراتيجي لحقوق الإنسان، د.فاضل الغراوي أن هناك "أهمية للضمانات الأساسية التي تركز عليها المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد بين الغراوي أن هذه المعاهدات "تؤكد على مجموعة من الضمانات الأساسية المتعلقة بحقوق المتهم والمحاكمة العادلة وإجراءات التحقيق".
وتشمل هذه الضمانات، وفقا للغراوي: "حظر استخدام التعذيب أو العنف الجسدي أو النفسي لاستخلاص الاعترافات، ضرورة الحفاظ على سرية ما يدور في التحقيقات، بما في ذلك هوية المتهم، وطبيعة القضية، وتفاصيلها، عدم إخضاع المتهم لأية ممارسات تخويفية أو إرهابية أو تعذيبية، بالإضافة إلى الحفاظ على كرامة الإنسان واحترام المتهم في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة".
ويؤكد الغراوي أن "انتهاك هذه الضمانات يعتبر انتهاكًا لمنظومة العدالة وحقوق الإنسان. كما أن مرتكبي هذه الانتهاكات يخضعون لمجموعة من الإجراءات القانونية سواء كانت تتعلق بالقوانين العسكرية أو انتهاكات حقوق الإنسان التي تُشير إليها محكمة حقوق الإنسان والبيئة".
يلفت الغراوي الانتباه إلى "أهمية وضع إجراءات خاصة للتعامل مع النساء في مختلف مراحل التحقيق والاحتجاز، نظرًا لخصوصية وضعهن واحتياجاتهن الخاصة، لضمان احترام حقوقهن وكرامتهن الإنسانية".
الخروج عن ضوابط المهنة لكسب المشاهدات.. عن إعلاميي "الترند"!
نشر في: 10 يوليو, 2024: 12:08 ص