اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > بيتر هاجدو والسرد الصيني

بيتر هاجدو والسرد الصيني

نشر في: 14 يوليو, 2024: 12:13 ص

د. نادية هناوي
حققت علوم السرد ما بعد الكلاسيكي تقدما ملحوظا في العقدين المنصرين وبقفزات نوعية في النظرية الأدبية بالقياس إلى ما كان المنظرون الكلاسيكيون قد انجزوه خلال نصف قرن تقريبا من عمر هذه النظرية. ولقد تجاوزت تلك العلوم جغرافية قارتي أوربا وأمريكا الشمالية لتصل إلى آداب الشرق في الصين واليابان والهند وروسيا وغيرها، سواء أكان ذلك في شكل مشاريع جديدة صارت تأخذ موقعها في النقد الأدبي العالمي أو في شكل دراسات يقدمها باحثون غربيون، بها يساهمون مع الباحثين الشرقيين في التطوير وتوكيد الهوية القومية لتلك الآداب الشرقية؛ التراثية منها والمعاصرة. ومن هؤلاء الباحث الهنغاري بيتر هاجدو، وهو أستاذ يعمل في جامعة شنغهاي بالصين، ويشغل عضوية مركز أبحاث العلوم الإنسانية بالأكاديمية المجرية للعلوم في بودابست ورئيس تحرير مجلة نيوهيلكون Neohelicon. وله أبحاث عدة في السرد منها دراسته الموسومة(إعادة اكتشاف السرد الصيني: مقدمة) 2018، وفيها يذهب إلى أن علم السرد يميل إلى الانفتاح على العالمية. ويفترض إن كان توفر الأدوات النظرية يتيح عملية وصف أو تصنيف السرديات التي أنتجتها البشرية، فلن تكون هناك حاجة إلى التغاضي في بناء النظرية السردية عن المحليات والوطنيات أو التجاهل المتعمد للجغرافيات والتواريخ. ولأن النظرية السردية لا تتطور من فراغ، لذا يصعب وضع نظام نظري بحت محتمل يطبق على كل السرديات، سواء كانت منسية منذ زمن طويل أو كانت متطورة وتتجه في تطورها نحو المستقبل. ومن المفترض في علم السرد ما بعد الكلاسيكي أنه يصف ما كان قائما سابقا وما هو موجود فعلا، ومن ثم يكون طبيعيا تحليل ما في هذا القائم من تقاليد محددة، ويكون ضروريا أيضا أن يكون لهذه التقاليد المحددة تأثير في النظرية السردية.
وتقوم هذه المعادلة المنطقية على مثال تطبيقي، فيه يتضح الفارق الكبير بين دراسات الأقلمة والدراسات الأدبية، ويتمثل في سرد السكاز، وأول من تناوله بالدراسة هم الشكلانيون الروس مثل بوريس وتيتانوف وباختين ثم درسه الانجليزي ديفيد لودج الذي عد السكاز غير خاص بالحكاية الروسية، بل هو معروف في الآداب الأخرى. وانتقل من الأدب الشعبي إلى الأدب الرسمي ليكون له دوره المؤثر في الآداب العالمية. ومما أكده الباحث أن الدراسات الأسلوبية والبنيوية تعاملت مع السكاز كظاهرة عرفها السرد الأوروبي الكلاسيكي وكعنصر في بناء المونولوج، لكنه تأقلم مع ظواهر أدبية خارج الأدب الروسي أو الأوروبي الشرقي، فعرفه السرد الأمريكي في أعمال أدبية كثيرة مثل "هيركات" لرينج لاردنر أو "هاكلبري فين" لمارك توين وحلقة "سايكلوبس" من رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، والطبعة الأولى من قصة " الخيول المرقطة" لوليم فولكنر ورواية " الحارس في حقل الشوفان" لسالنجر.
ويرى هاجدو أن للعولمة دورا مؤثرا في الانتقال بمفاهيم الدراسات الأدبية من المراكز إلى الهوامش أو الأطراف، إلا إن ذلك التأثير ما زال غير مرضٍ ولا عادل. ومنذ العقدين المنصرمين، بدأت في الصين حركة نقدية لتطوير السرد الصيني هي بمثابة توجه مشروع نحو المساهمة في بناء النظرية الأدبية بدلا من أن يستمر الغرب في التفرد بها مهيمنا على صناعتها على مدى العقود السابقة. ولقد وقف هاجدو عند روايات صينية معروفة، معتمدا على مجموعة أدوات نظرية تبحث في التقاليد الأدبية والفكرية الصينية وخصائصها التي هي - بحسب هاجدو - غامضة بالنسبة للباحثين غير الصينيين مع وجود انطباع عام هو أن التقاليد الصينية مختلفة تمامًا لدرجة أنها لا توفر إمكانية الوصول إليها أو تقديم شيء يستحق الجهد المبذول فيها، لأنه- نقلا عن شلايرماخر- ""لا يمكن فهم ما هو غير مألوف ولو جزئيًا".
ومن المسائل التي شدد عليها هاجدو الحاجة الماسة إلى كثير من الجدل حول أقلمة مفاهيم علم السرد وتقاليد السرد القديم، وما قد يضيفه ذلك من ظواهر جديدة إلى النظرية السردية، تجعل التقليد يخرج من نطاقه المحلي أو الوطني أو الجغرافي أو التاريخي إلى نطاق عالمي. وأشار هاجدو إلى مساهمتين مهمتين، فيهما تتجلى هذه الرؤية الديالكتيكية للأقلمة، المساهمة الأولى هي(الحلقة المصغرة حول إعادة اكتشاف تقاليد السرد الصينية) التي أسسها بيو شانغ وشارك فيها مجموعة باحثين، وكان لها دور في إلقاء نظرة فاحصة على التقاليد السردية الصينية من ناحية الخصائص والمكونات وما يمكن لها أن تؤديه في تطوير النظرية الأدبية الغربية. والمساهمة الثانية تتمثل في البحث المعنون(الخيال كمورد بلاغي في تشو شوان) ليوجين لين وفيه اختبر النظرية البلاغية للخيال عند ريتشارد والش في تحليل استراتيجيات النص الرحلي (تشو شوان) بوصفه نصا صينيا تأسيسيا يعود تاريخه في الأرجح إلى القرن الخامس قبل الميلاد واستند أيضا في الكشف عن العناصر الخيالية في هذا النص السردي إلى إنجازات باحثين صينيين ناقشوا هذا العمل المثير للاهتمام، مضيفين إضافات مبتكرة إلى تقاليد السرد التي عرفها التاريخ الصيني القديم، وفي هذا السعي دلالة واضحة على أهمية المنظور التاريخي في بناء النظرية السردية.
ولأن الخيالية أداة بلاغية، يصبح النص حافلا بالخرافات والتنبؤات والأحلام والظواهر الغامضة، وفيها يجتمع البشري بالإلهي. وهو أمر عرفته الآداب القديمة غير أنه طاغ في الأدب الصيني بسبب ما فيه من خرق للطبيعة تجعل من الخيالية تقليدا سرديا صينيا مقارنة بالتقاليد السردية الغربية، مؤكدا أن ما نتصوره اليوم من خرافات كانت قديما بمثابة وقائع حقيقية يؤمن بها الجمهور وتفيد منها النخبة الحاكمة. وهنا يشير هاجدو إلى ما قدمه بيو شانغ في مجال "علم السرد غير الطبيعي" من تصورات وتنظيرات حول حكايات تشيجواي الأسطورية، فحلل عناصرها غير الطبيعية، متقاربا مع منظور جان ألبر حول العوالم المستحيلة وتوظيف الشخصيات غير الآدمية والأزمنة والأمكنة غير المعقولة أو المستحيلة مثل العودة من عالم الموتى أو الأشباح أو السفر عبر الزمان.
وإذا كانت تنظيرات جان ألبر للسرد غير الطبيعي تركز على ما في السرد الحديث والمعاصر من فواعل جامدة كالروبوتات أو السايبورغ، فان تنظيرات بيو شانغ تركز على ما في الحكايات الصينية القديمة من سرد غير طبيعي، تُوظف فيه فواعل غير آدمية تشبه البشر إلى حد كبير ولديها مشاعر وتملك طموحات ويكون لها في كثير من الحالات مظهر بشري أيضًا.
واهتم هاجدو بما قدمه شانغ من كشوفات أخرى سلط الضوء فيها على سمة مركزية، أهملها التحليل السردي الغربي، ألا وهي اللاطبيعية، بيد ان هاجدو شكك في ما سيضيفه شانغ من جديد للنظرية السردية، بالقول: (باعتباري قارئًا غربيًا.. أود أن أقوم بصياغة بعض الأفكار الأولية.. فعلى الرغم من أن الشخصيات غير البشرية تشبه الإنسان إلى حد ما في القصص الصينية، فان تجسيمها رمزي ويعمل كعمل التقليد الغربي، فحيوان ناطق كالذئب مثلا في حكاية فايدروس انما هو رمز لرجل عدواني ظالم قوي في حين أن الحمل رمز لرجل طيب وبريء) فالشكل المجازي للحيوان في ثقافة الطوطم يستند إلى فكرة بدائية فيها الحيوان يتصرف كالإنسان يملك الحواس ولديه قوى خارقة وهذا مبدأ أساس في الثقافات الشرقية، ونقل عن شانغ قوله: (قد يكون المستذئب مثالًا معاكسًا في الفولكلور الغربي، لكن كما أرى المستذئب هو إنسان يتحول إلى ذئب.. ويفقد إنسانيته). وضرب هاجدو أمثلة كثيرة على الإدراك الذي يعطي للشخصية غير الآدمية بعدا إنسانيا فيصبغ القصة الخرافية بصبغة تعليمية سواء أكانت القصة شفاهية أم مكتوبة أم مرسومة. وينتهي هادجو إلى ان الأقلمة تحفز على التفكير وتدفع نحو العمل على مزيد من التطوير في النظرية السردية المعاصرة من خلال تسليط الضوء على خصوصيات الثقافة الصينية، وما تتفرد به من تقاليد سردية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

320 شهيداً ومصاباً "حرقاً" خلال 48 ساعة بأسلحة "محرمة دولياً" في غزة

الانبار.. قوات الحدود تطيح بمتهم بحوزته عشرة آلاف حبة مخدرة

التنسيقي يعلق على تعيين عُماني كمبعوث جديد لـ"يونامي" في العراق

الديوانية تعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

برشلونة يتلقى ضربة قوية ويفقد نجمه 4 أشهر

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

التقدم والنمو في قرننا الحادي والعشرين

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

نص: في هذه العزلة المرّة

مقالات ذات صلة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك
عام

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

ثائر صالحيعود الفنان عباس الكاظم (1954) بعد ثلاثة وثلاثين سنة إلى موقع أول معرض أقامه في الدنمارك سنة 1991، وهو جناح القصر الملكي في مدينة روسكيلده العاصمة الدنماركية القديمة. واختيار هذا المكان لمعرضه الأخير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram