ستار كاووش
إبتعدَ النحت الذي يمثل رجال المقاومة الفرنسية خلفي، وأنا أخطو بهدوء بين أروقة متحف قصر الفنون بمدينة ليل، فإخترتُ مكاناً هادئاً في صالة تعرضَ فيلماً وثائقياً نادراً عن مونيه الذي تابعته وهو يتجول أواخر أيامه في حديقته الشهيرة التي رسم فيها لوحته الشهيرة زنابق الماء، ثم خرجتُ بعدها باحثاً عن بعض أعماله، متوقفاً أمام لوحته التي رسم فيها مشهد ضبابي لنهر التايمز عند زيارته الى لندن، حيث يتلألأ سطح الماء، فيما تنتصب بناية البرلمان كإنها برج أسطوري في عمق اللوحة، وهي ضمن سلسلة من اللوحات التي تناول فيها ذات الموضوع ومن نفس الزاوية، لكن بأوقات متفاوتة، وقد عكسَ فيها إنطباعه المذهل عن مدينة الضباب. أكملتُ خطواتي في المتحف، فوصلتُ الى صالة طويلة جداً، إستقرت في بدايتها لوحة للفنان بونار، رسمَ فيها مشهداً للبحر وبعض البيوت برقشات ملونة وبتكوين غريب حيث تحتل السماء ثلاثة ارباع مساحة اللوحة، ويُقابلها لوحة للفنان فولار مليئة بالزخرفة والرقشات المتحركة، وفي وسطها مزهرية بيضاء مع بعض الزهور. مضيتُ قليلاً لتشرقَ أمامي لوحتان للفنان المذهل أرنست لورنت، وهي تعتبر من أجمل الأمثلة لفن ما بعد الانطباعية، حيث تتحرك الفرشاة بنعومة وتناغم قلَّ مثيله، حتى بدت الشخصيات التي رسمها كإنها تنظر الينا من خلف زجاج نافذة بللها المطر.
وأنا على هذا الحال أقف هنا وأتأملُ هناك، إستوقفني وسط القاعة عمل نحتي للفنان جورج لاكومب، والذي كنتُ أتوقع أن أرى هنا بعض لوحاته الرمزية، لكن هذا العمل النحتي إنبثق فجأة وسط القاعة الطويلة التي من شدة إمتلائها باللوحات الملونة، جعلتْ التمثال يبدو كأنه وسط بوليفار محاط بأشجار ملونة. هكذا أعلنتْ المرأة في هذا النحت عن نفسها وكإنها تنتظرني أو تستوقفني عنوة، فيما زوار المعرض يتحركون جيئة وذهاباً وهم يتابعون اللوحات على الجانبين. إستجبتُ لدعوة المرأة وبقيتُ واقفاً أمام هذا الجمال والرمزية التي تحمل الكثير من السطوة والتعبير. ورغمَ أن إرتفاع هذا العمل لا يتجاوز المتر، لكنه مع القاعدة المرتفعة بدا بإرتفاع الناس الذي يمرون بقربي والمنشغلين بالتطلع الى اللوحات. درتُ حول هذا التمثال وتأملتُ تفاصيله من كل الجهات، حيث يمثل مريم المجدلية وهي تجثو على ركبتيها باسطة إحدى يديها نحو الأمام، ومتحسسة بيدها الأخرى قلبها. الرأس المنحني قليلاً مع إغماضة العينين يمنح شعوراً بالدعة والإمتثال، فيما ينساب شعرها الطويل المموج بلا نهاية حتى يلامس قاعدة التمثال ويمنحه ثبات أبدي. هنا ترى الهدوء والسكينة وهي تمتزج بتعبير روحي أخاذ، وما زادَ الأمر رِفعَةً هو مادة الخشب الحية التي تبدو كإنها تبث الحياة في هذا العمل الجميل. من النادر أن يتمتع فنان بقوة وجمال الرسم مع إمكانية التعبير المذهل من خلال النحت ايضاً، وهذا ما يقوله لنا الفنان لاكومب من خلال موهبته وحساسيته فى استخدام المواد التي تقع بين يديه، كما في هذا العمل الذي يعتبر أحد النماذج النحتية لما بعد الانطباعية وحتى الرمزية، حيث تجتمع الهيبة مع الجمال في عمل واحد.
يُعتبَر الفنان جورج لاكومب (1868-1916) أحد أهم الفنانين الفرنسيين، حيث جمعَ بين الرسم والنحت، وقد دَرَسَ الرسم في أكاديمية جوليان، وصار عضواً فى جماعة (نابيس) أو الأنبياء، (والتي سأكتب عنها لاحقاً موضوعاً منفصلاً) وأصبح صديقاً لأهم أعضائها مثل برنار وسيروزيه وباقي الرسامين الطليعيين في ذلك الوقت، حيث قضى بصحبتهم أوقات الصيف بتسعينيات القرن التاسع عشر في بريتاني، وهناك صار أسلوبه أكثر رمزية من خلال إستخدامه الخطوط والمساحات والألوان الصريحة، كذلك طريقته الرمزية في إنجاز منحوتاته، حيث وظَّفَ مادة الخشب بطريقة تبدو فيها الأعمال واقعية، لكنها تحمل شحنه عاطفية كبيرة واستخدام رائع للخطوط المتموجة والإيماءات بطريقة شاعرية. وكان التحول الكبير الذي طرأ على عمله وابداعه، هو تعرفه على الفنان غوغان سنة 1893، وتأثره بلوحاته ومنحوتاته الرمزية بشده، لينجذب دون توقف الى النحت على الخشب، لدرجة إن أصدقاءه الفنانين أطلقوا عليه تسمية (نحات الأنبياء). وقد سنحت لي فرصة عظيمة في وقت سابق بمشاهدة أكبر مجموعة من أعماله في متحف أورساي في باريس والتي تضم العديد من المنحوتات واللوحات التى يجب على محبي الفن التوقف أمامها كثيراً.