طالب عبد العزيز
هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده الى مراتب الوظيفة، فهو بالغها أو كاد، لكنْ، حال دونها حائل القلم الكتاب، وأقصاها المانعون والسَّوقةُ والحُجّاب، إذْ أنَّه وبعد أن استقام عوده، تعذرَ عليه قيامُه وقعوده، على أنه البطلُ الهمام، ذو العضل المفتول، والطامح المجتهدُ، الناظر بعين المأمول، والسائل الذي طال وقوفه على باب المسؤول، تدفعه الحاجة قبل غيره، فينظر بعين رضاه الى صاحب أمره، حيث لا رافعة ترفعه، ولا عين تدمعه، إلا من حياءٍ ثقيل يصفعه، وقد ارتفع من حوله الأدنون، وخذله الأشقّاءُ العاملون.
يا بني، وأنت تفتحُ باب حياتك، على غامض أيامك وسنواتك، أوصيك بما لم يوصِ به لقمان الحكيم لابنه، كيف لا، وقد ذهب هذا وذاك لشأنه، ومال من مال لعصبته وضِغنه. إذا دخلت البصرة، اجعل شمسها في جبينك، وأحبس رملتها بين أصابعك وأسنانك، واحفظ ماضيها وحاضرها في قلبك ووجدانك، ولا تضع رحالك إلا بين أهلها، ولا تستعذبْ ماءَ سواها، فوالله لهو الماء الحياة، وإنْ شحَّ ومَلُحَ وتأخرَ مدُّه، ولا تخبر أحداً بما آلت اليه أنهارُها، ولا ما صارت عليه سهولها وأغوارها، ولا تقل لكاره بأنك ماقتها وكارهها، فهي السيدة بين البلدان، وهي الحبيبة والقبيلة والولدان، التي ليس لك سواها، وإن تكالب فيها عليك من تكالب، وأستفردك من كان حَملاً فاستأسدَ وتذأَّب.
بذلك أوصيك، لكنْ إياك أنْ يفتضحَ أمرُك، ويذاعَ بين الناس سرُّك، فيوشى بك الى زعيم حزب عميل، يقتلونك ثم يقولون بأنك قُتلت في شجار بقبيلة، وإن أمكنك فلا تجعل بيتك قرب كنيس ومصلى ومعبد، فيضطرك خازنه الى بيعه بالإكراه والخسارة، واعلم، إذا استعصى أمرُك على بعضهم، سيتهمونك بشرب الخمرة في بيتك، فاحذرهم. إنهم الضباع. يا بني انزع يشماغك الاحمر إذا ذهبت الى مجلس كثرت اليشامغ السود فيه، ولا ترفع يديك طويلاً في الدعاء، فهذه خديعة من لا عزيمة في نفسه، ولا تشرب من بيتٍ ماءً، لم تلحظ فلتّرةً، قبل الحنفية، عند بابه، فهو مالح، ملوثٌ، مسموم، مدافٌ بالحقد والنذالة.
يا بني: تنفس ملء رئتيكَ دخان الرميلة، وغرب القرنة، ومجنون، هذه رائحة نقودك التي تحترق، لكنْ، لا تأكل التمر الذي يأتك من خارج الحدود، لأنك إن أكلت منه بار تمر مدينتك، وربحت تجارة الأحزاب، وخسر الجيران. خذ ابنك في الستوتة خاصتك، وليصعد، لا عليك، فالطين الذي على سرواله هو طين وطنك الحبيب، وإذا مرضت، اجعل طريقك الى الهند وطهران واسطنبول، هناك، حيث لن يقرأ أحدٌ عليك المعوذتين./ لكنْ، إياك، ألا تجعل منجلك تحت وسادتك، ومسحاتك قرب الباب، ولا يخدعنك قولُ قائلٍ بسبخة تراب البصرة، هي أطهر مما يتنفسون، وأوصيك ونفسي الأمّارة بالنور والجمال: إذا قادتك قدماك الى تظاهرة، بساحة من ساحات المدينة فلا تجعل القناع على وجهك حائلاً بين حقّك وغاصبك، لكنْ، احذر أن تودع صوتك في ميكرفون، فهذا وطن يُحاسَب المرءُ فيه على صمته. ولا تقل بأنك لم تحصل على واحدةٍ من عشرة آلاف وظيفة، التي ملأت أوراقُها حديقة الحكومة. خذْ (جمبرك) الى رأس الشارع، وبع السجائر وحب عباد الشمس وشفرات الحلاقة.. وردد ما وصّيتك به بالأمس. يعيش الوطن، يعيش الوطن.. قلها ما حييت وإنْ مزّقَ الرصاصُ جسدك.