د. كاظم المقدادي*
(4)
إستنتاجات سابقة لأوانها وأخرى ليست علمية
في البرنامج التلفزيوني " بالعراقي" لـ"الحرة عراق"، أقر مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع: " إتشار حجم التلوث الإشعاعي الناجم عن إستخدام أسلحة اليورانيوم "المنضب،" وتزايد عدد ضحاياه المصابين بالسرطان". لكنه إستدرك: " الآن نستطيع القول ان الآثار المستقبلية للإشعاع توقفت تماماً، وما حدث حدث..". وطرح أيضاً: " تأثيرات إشعاع اليورانيوم المنضب هي شائعات مقصودة إقتصادياً ضد البصرة، لان اليورانيوم لا ينتقل بالهواء ولا بالغذاء"..
لا نعلم ما هو إختصاص المدير، الذي كان "يستنجد" بالدكتور الباهلي ليؤيد صحة إستنتاجاته، بشأن اليورانيوم "المنضب" وأضراره، والتي كانت متناقضة، وليست علمية.ولعل أخطرها:"توقف" الآثار المستقبلية للإشعاع تماماً!! مخالفاً العلم، الذي يؤكد ان التأثيرات البيولوجية لسمية اليورانيوم "المنضب" تستمر 4.5 مليار سنة،والواقع العراقي،حيث تتضاعف أعداد ضحاياه. وهو نفسه أقر بـ " تزايد عدد ضحاياه المصابين بالسرطان"!!.
ونضيف أن أمين عام مجلس السرطان في العراق د. تحسين الربيعي أكد تسجيل 39 ألف إصابة جديدة بمرض السرطان في عام 2022 (" واع"، 2024/3/19).. ونفس الأرقام كانت تقريبا في أعوام 2017- 2023.. فكيف " توقف تأثيره". ومركزه نفسه رد عليه بإعلانه: ان هدف ا"لخطة الوطنية اعلان العراق خاليا من اثار التلوث الاشعاعي باليورانيوم المنضب وازالة اثاره عن البيئة والانسان" ("واع"،21 /1/2024).
نعتقد ان مثل هذه الطروحات تدلل على عدم دراية أو قلة معرفة بالمستجدات العلمية ذات العلاقة بطبيعة اليورانيوم "المنضب"،وبسميته الكيميائية والإشعاعية وأضرارها البيولوجية.. نقترح مطالعة 3 أوراق بحثية لنا منشورة في مجلة " الثقافة الجديدة" الغراء، مكرسة لهذه الموضوعات، وغنية بالمصادر العلمية الرصينة، أدناه روابطها:
1 - ذخائر اليورانيوم المنضب.. مستجدات علمية، العدد المزدوج 353-354،تشرين الثاني 2012، 45
https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/141-353-354-2012
2 -ضوء على السمية الأشعاعية والكيميائية لليورانيوم المنضب، العدد 380، كانون الثاني 2016، 53
https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/122-380-2016
3 -تجاهل أثر أسلحة الحرب ودورها في الكارثة البيئية والصحية في العراق.. خيانة علمية ووطنية!، العدد 382، اَيار 2016، ص45
https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/120-382-2016
فضيحة بجلاجل
المزاعم السالفة تنطوي على مخاطر إهمال متابعة التلوث الإشعاعي وضحاياه، لاسيما وثمة تخبط جلي في بيانات المركز العتيد. فبعد الإعلان عن تشكيل الفريق الوطني لإزالة الملوثات الإشعاعية، نفت وزارة البيئة وجود تلوث إشعاعي في العراق (" المدى"، 9/3/2022). مكررة نفي مركز الوقاية من الإشعاع في تقريره لشهر حزيران 2010 "خلو هواء وتربة ومياه العراق من أي تلوث إشعاعي"..
والفضيحة المجلجلة اَنذاك هي أنه قبل نفي المركز بنحو ثلاثة أشهر، نُشرت في لندن دراسة عراقية رسمية شارك فيها مع وزارتي العلوم والتكنولوجيا والصحة،أكدت وجود أكثر من 40 موقعاً في العراق ملوّثة بمستويات عالية من الإشعاع والسموم، 25 بالمائة منها تقع داخل أو بالقرب من المدن والبلدات الكبيرة،التي تنتشؤ فيها نسب متزايدة للسرطان، والعيوب الخلقية. وتحتوي ساحات الحديد المضروب، من مخلفات اليورانيوم "المنضب" الذي استخدمت ذخائره الحربية خلال حربي 1991 و 2003.، في بغداد والبصرة وحولهما، على مستويات عالية من الإشعاعات الخطرة، راجع:
Iraq littered with high levels of nuclear and dioxin contamination, study finds, By Martin Chulov in Baghdad, The Guardian, UK, 22 January 2010
المفارقة الجديدة، أنه بعد النفي الثاني في اَذار 2022 بـ 4 أشهر،اعلنت وزارة البيئة، مرة أخرى "إعدادها آليات تنفيذ الخطة الوطنية لازالة التلوث الاشعاعي " ("نينا"،6/7/2022).وفي اَب 2022، أعلنت عن "الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي"..
والمفارقة الأخرى،أنه في نفس اليوم أعلن د.الحسيني أن "ملف اليورانيوم اُختتم في محافظة البصرة"، وأضاف:" أن الخطة بدأت من محافظة البصرة وميسان، ومن المؤمل خلال إسبوع الانتقال إلى محافظة المثنى، وبعدها إلى ذي قار والأنبار"، منوهاً "ان الملف الأصعب والذي يحتاج إلى جهد كبير هو مدينة الموصل، فهناك موقعان يحتويان على مطامر دفنت فيها المواد المشعة وقامت داعش عند إحتلال الموصل بتنقيب المنطقة وبعثرة ما فيها ("الصباح"،16 /8/2022).
ما قام به حماة البيئة ويريدونه
بالضد من موقف حكومات المحاصصة والفساد،التي أهملت وتجاهلت التلوث الإشعاعي في العراق طيلة 21 عاماً كمشكلة ساخنة وخطيرة، يشهد التأريخ لحماة البيئة العراقيين، وبينهم علماء وأكاديميون وباحثون وخبراء، أنهم أول من طالب مراراً وتكراراً، بالتحرك الفوري لإزالة مصادر التلوث الإشعاعي من البيئة العراقية.ونشروا الكثير من المعرفة العلمبة عن طبيعة ذخائر اليورانيوم " المنضب" كنفايات نووية خطيرة، وعن السمية الكيميائية والإشعاعية، والأضرار البيولوجية لإستخدامها. وحذروا من خطورة تجاهل المشكلة وإستمرار بقاء التلوث الإشعاعي على الصحة العامة والأجيال القادمة مع كل يوم يمر.
وفي نيسان 2009،أطلقوا حملة وطنية،عنوانها:"من أجل تنظيف البيئة العراقية من المخلفات المشعة وإنقاذ من بقى حياً من الضحايا "، وقد تحولت الى حملة عالمية، بإنضمام إليها المئات من العلماء والأكاديميين والخبراء والباحثين في الإشعاع والطب الذري، وفي تأثيرات التلوث الإشعاعي وتداعياته الصحية، من مختلف دول العالم. وقد طالبت الحملة المجتمع الدولي والأمم المتحدة ووكالاتها الدولية المتخصصة، ذات العلاقة بتقديم الدعم العاجل والمساعدة اللازمة للحكومة العراقية لإنجاز هذه المهمة الكبيرة..
وبجهود أكاديميين عراقيين نظمت الجامعة التكنولوجية في لوليو (Luleå) بالسويد، في عام 2011، ورشة عمل علمية عالمية، كُرِسَت لتخليص العراق من ركام الحرب الملوث باليورانيوم بطرق اَمنة وبأقل التكاليف. وأُرسلت اللجنة المنظمة وثائق الورشة الى كافة الجهات العراقية المعنية، وإستلمتها..
المُعيب والمُريب ان كافة الجهود التي بذلت والمبادرات الحريصة التي قدمت، من داخل العراق وخارجه، جوبهت بالأهمال الفج من قبل الجهات المعنية، ولم تكلف نفسها ولو بالإطلاع على مضامينها.
وفوق هذا، إتخذت إدارة مركز الوقاية من الإشعاع، بقيادة بشري علي أحمد، موقفاً لامهنياً ولاوطنياً ولاإنسانياً،عندما وقفت، بوعي أو دون وعي، في صف البنتاغون وأبواقه في سعيهم المحموم لـ" تبرئة " جريمة إستخدامه وحلفائه لأسلحة اليورانيوم الفتاكة، في حربين مدمرتين على العراق، مجسدة موقفها بالإنكار والتعتيم والتستر وتشويه الحقائق المتعلقة بحجم التلوث باليورانيوم "المنضب" وتداعياته الخطيرة، وتوجته بفضيحة مجلجلة- كما أسلفنا
ولقد أعلنت وزارة البيئة ومركزها العتيد عن العديد من "الخطط الوطنية" و "المشاريع " ذات العلاقة بالتلوث الإشعاعي، دون نشر تفاصيل وافية عنها، ولا عن "إنجازها "، بينما واصلت محنة المواطنين ضحايا الإشعاع تفاقمها،وهي خير دليل على فشل المتنفذين.
إرتباطاً بكل هذا، وغيره، يحق لحماة البيئة العراقية إبداء عدم القناعة،وحتى عدم الثقة، بتنفيذ " الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي" المطروحة، كلياً، ولا " بقرب إعلان خلو العراق من الإشعاع تماماً". ومن حقهم ان لا يشاركوا المتحمسين تفاؤلهم وهو يتحدثون عن " النسب المتقدمة التي حققتها "، والتي لا تخلو من مبالغة، وليست واقعية، وتوحي بإستباق للأحداث.
كما ولا يتفقون مع الطروحات غير العلمية، والتي تتعارض وألمستجدات العلمية لليورانيوم "المنضب " وخطورته بوصفه نفايات نووية خطيرة.
لا شك ان المهمة المطروحة مهمة كبيرة، طال إنتظارها، وشابها الكثير من الإهمال والتقصير. من غير المعقول إنجازها خلال أشهر وأيام، وبميزانية بائسة. فكل هذا يعطي المبرر للتساؤل:
لماذا التعجيل، ولمصلحة مَن، إعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي" بهذه الطريقة المشكوك فيها؟
وبصراحة، ان تجربة العقدين المنصرمين لم تشجع على التفاؤل، الأمر الذي يتطلب الأخذ بالنقد الموضوعي البناء كوسيلة للتقويم والتطوير، لا إعتباره "إستهانة"، أو لـ " تثبيط " العزائم المخلصة والحريصة..
مرد التشاؤم هو التجارب المريرة، والممارسات الصادمة التي عشناها طيلة عقدين كاملين في ظل منظومة المحاصصة وتقاسم المناصب والإمتيازات، وما أنتجته من هيمنة للجهلة والفاشلين على مؤسسات الدولة، وتجلت، في المشكلة المطروحة، بسوء الإدارة البيئية، والتخبط، ولادراية بالمشاكل القائمة، وبتبعاتها، وسبل معالجتها..ففشل الأداريون غير الأكفاء بواجباتهم، فشلآ ذريعاً، وبالغوا بـ "إنجازاتهم" بالكذب الصلف.
كل ما يتمناه حماة البيئة العراقيين هو خلاص شعبنا الجريح من التلوث الإشعاعي القاتل ووضع حد لتبعاته الصحية الخطيرة،عاجلآ وحقاً وفعلآ. وإقتراناً بذلك لا يسكتون على الفشل والتدليس..
بذات الوقت، هم من أشد الداعمين للجهود العلمية والوطنية الخيرة المثمرة.
من هنا، فهم لا يتمنون الفشل للجهة التي ستنهض بإزالة التلوث الإشعاعي.. لكنهم ينبهون: الفشل حليف كل من يواصل السير على نهج الإدارة السابقة وممارساتها اللامهنية واللاوطنية، والتي فشلت بمعالجة الإشعاع المنتشر، وفاقمت من محنة ضحاياه، وفي مقدمتهم أطفالنا-عماد الحاضر والمستقبل.
*أكاديمي عراقي متقاعد،متخصص بالصحة والبيئة وبالأضرار البيولوجية لإستخدام ذخائر اليورانيوم المشعة.