اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > نازك الملائكة والمشروع الإصلاحي

نازك الملائكة والمشروع الإصلاحي

نشر في: 28 يوليو, 2024: 12:03 ص

د. نادية هناوي
لا يخفى ما في كتابات نازك الملائكة من نقد اجتماعي، تتضح فيه تأثيرات الظرف التاريخي وطبيعة الوضع العالمي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية سياسيا واجتماعيا وثقافيا. ولقد بدت أولى سمات فكرها الاجتماعي تبين في شعرها اولا ثم تتأكد في نقدها آخرا. وهذا ما يدل على عمق وعيها بالمجتمع ورغبتها في تثقيف افراده وتوجيههم عبر كشف الظواهر الاجتماعية والادبية وتشخيص أبعادها السلبية. واتخذت من التفكير في المفاهيم والنظريات طريقا الى بلوغ مراميها الثقافية، موجهة خطابها التنويري إلى القارئ العربي مباشرة(إنك تغرم بالمجتمع فتحمل مصباحا لتبحث عنه في ضوء النهار.. فما هذا المجتمع؟ انه نحن.. أنا وأنت أيها القارئ وجيراننا وأصدقاؤنا وبنو عمنا.. ولكن دعاة الاجتماعية لا يصدقون هذا فهم لا يدرسون بيئتنا.. وهذا هو المعنى الذي ينساه دعاة الواقعية الـ pseudo – realism).
ولقد فسر بعض النقاد والباحثين هذه التوجيهية في خطاب نازك الملائكة بأنها تعبير عن نزعة أستذة، فيها تريد توجيه المجتمع وتعليمه.، وفي هذا التفسير تجن واضح على ما في فكرها من رصانة وعمق فضلا عما لها من وعي جمالي، مكَّنها من أن تجمع بين النقد الادبي والفكر الاجتماعي، مؤمنة بأن للأدب دورا في الحياة بعيدا عن غلواء الاندفاع العاطفي والتعصب الايديولوجي. وهي التي تهكمت من مغالاة الواقعيين الذين يفصلون بين المواطن والإنسان. ووجدت في الدعوة إلى ان يترك الفرد حياته الإنسانية ويشتغل بالكفاح السياسي خطرا يسيء إلى الامة.
ومن جانب آخر رفضت نازك الملائكة جعل الفن مجرد لهو عابر كما يرى الفيلسوفان كانت وسبنسر، بل الفن توازن بين أن يكون حاجة إنسانية وبين أن يكون ذا نفع للمجتمع، منتقدة دعاة الكفاح السياسي والنضال الاجتماعي الذين أرادوا تفصيل الأدب على مقاسات نظرياتهم، وتصوروا(أن آداب الأمم لا تستجيب للدعوات الخارجية.. ولم يَروِ التاريخ ان أدب امة من الأمم قد غير اتجاهاته وفق دعوة عامة نادت بها الصحافة.. ماذا سينتهي إليه الشعر العربي إن قُدر للدعوة الاجتماعية أن تنجح؟ لا شك في انه سيصبح نمطا واحدا مصطنعا لا يملك الشاعر ان يحيد عنه وفي هذا سيلقى الشعر مصيره..وإذا مات الشعر فكيف سيتاح له ان يكون عامل خير في حياتنا الوطنية؟ ألا تصح الدعوة إلى اجتماعية الشعر بهذا دعوة هدم ساذجة ينبغي ان نجدد قوانا الذهنية كلها في كبح اندفاعها ورد سذاجتها المستبدة عن الشعر العربي؟)
وهذا ما فُهم من باب نزوع نازك الملائكة القومي الذي يتصادى مع النزوع العام الاممي لليسار العربي. وفاتهم أنها كانت تنطلق من فكر اجتماعي يؤمن بأن القومية مفهوم أصيل يعبر(عن الروح العربية بكل ما لها من عفوية وإطلاق انه يمثل لفتات ذهن الأمة العربية وملامح شخصيتها ومستواها العاطفي)
ولقد عارض الناقد المصري رجاء النقاش نظرة الملائكة القومية إلى الأدب، متسائلا إلى أي مدى يصح للأديب أن يدخل ميدان الفكر السياسي مزودا بسلاح أدبه حسب؟ فردت بمقالها المعنون(القومية العربية والمتشككون) وفيه عبرت عن وعي سياسي وثقافي، منتقدة من ينتقص فكر المرأة، قائلة:(إن الأسلوب الذي تتبعه يا أستاذ رجاء في مناقشتك هو ما اسميه بالإرهاب الفكري.. استعملت أسلوبا هجوميا فيه طغيان فكري واستبداد.. انه يستغفل القارئ ويدلس عليه.. ليس من المسلم به أنني جاهلة بأبحاث الفكر السياسي..الواقع ان من عادتي أن أتكلم شعرا كلما انفعلت ولا خلاص لي من ذلك. ومع ذلك فانا أثق أن الموضوعية والعلمية والوضوح لا تتناقض قط مع التعبير)
ولنازك الملائكة أكثر من رؤية اجتماعية في ظواهر المجتمع العربي ومنها ظاهرة الانقياد المطلق والأعمى لما يأتي من الغرب مع ازدراء كل ما هو عربي، ووجدتها ظاهرة خطيرة داهمت المجتمع العربي بشكل عنيف(أن هذا الغرب الذي نقلده يسير إلى التفسخ والانهيار وموت الإنسانية ومثاله استخدام ضمير الجمع في خطاب الفرد كتفخيم المخاطب اقتباسا للطريقة الفرنسية وهو مناقض لما يقبله العقل) وانتقدت تبعية بعض المترجمين التي تجعلهم في موقف (الضعيف) فيما يترجمونه، وصفت حالهم بـ(الهوان والاستخذاء) و(أن الأمة التي تحتاج إلى الترجمة هي بالضرورة اضعف شخصية وفكرا من الأمة التي تترجم عنها فكأنما الحاجة إلى الترجمة قرينة النقص الفكري وضحالة المعرفة وقد يكون من المفيد في مداراة هذا الإحساس ان نتذكر ان الغرب الذي يعطينا فكره إنما رد إلينا بعض ديونه القديمة المتراكمة فكم قد اخذ في غابر القرون عن ابن سينا وابن الهيثم وابن رشد والغزالي والمعري وابن خلدون وسواهم)
ولان نازك الملائكة أولت الأخلاق اهتماما خاصا، غدا معركتها في مجال الاصلاح الاجتماعي متقدمة على سائر الدلالات الأخرى. وأكثر نقدها كان موجها نحو العادات البالية، متناولة إياها من باب الأخلاق حينا ومن باب المرأة حينا اخر، رغبة منها في تصحيح مسار المجتمع العربي. وهذا ما منح خطابها مزيدا من العمق والتعدد في ظرف تاريخي يعد مبكرا الحديث فيه عن مثل هذه الموضوعات الاجتماعية التي كانت آنذاك تفهم فهما عاطفيا وتتناولها الأقلام بكثير من الانفعال الذي يبتعد عن هدوء الموضوعية وحكمة التجرد من الأهواء. فعبرت نازك الملائكة عن امتعاضها من اللاعلمية في موقف طائفة كبيرة من الفلاسفة والأدباء والمفكرين من مسألة الأخلاق. ورأت فيه موقفا غير علمي تنقصه الرصانة والاتزان؛ فالأخلاق هي التي تنتج الشخصية التي لها أن تنتج كل ما هو إنساني. ومقتت بشدة أخلاق المجتمع الذكوري ومظاهره التي تجعل المرأة ثانوية وتافهة، ومن ذلك الاعتقاد بأن تحرر المرأة يسلب الرجل جانبا من حريته أو التصور الساذج بأن مرتبة الخؤولة دون العمومة وأن الأب أهم من الأم والسيدة المتزوجة أهم من الفتاة الآنسة وقيمة المرأة ليست بشخصيتها وثقافتها وإنما هي هبة تأتيها من الزوج، وأن عمل المرأة بالنسبة إلى الرجل بلا قيمة بينما هو يشكو من انه يعول المرأة، وهذا المظهر الأخير علقت عليه نازك الملائكة بالقول:(وهذا أعجب العجب) وبسبب ذلك كله صار للمرأة تاريخ سلبي من الحرمان والظلم والاضطهاد. كان من نتائجه دفع المرأة إلى التعويض النفسي كسلوك به تواجه تبديد طاقاتها العقلية والنفسية باحثة عن منقذ جديد يستوعب طاقتها المحبوسة التي لابد أن تتدفق وربما تكتفي بأداء الأعمال اليدوية البسيطة فاقدة ثقتها بقدراتها العقلية والنفسية.
ولم يقف فكر نازك الملائكة الاصلاحي عند هذا الحد، بل وصل الى نقد القوانين الجائرة التي تحكم قضايا المرأة بالاستناد الى العرف المحلي دونما نظر إلى المنطق. الامر الذي جعل(أغلب النساء في هذه البلاد لم تصل بعد إلى مرتبة الوعي الثقافي الكامل الذي يتيح لها ان تدرك الواقع المرير الذي تتخبط فيه).
ولم تلق نازك الملائكة باللائمة في هذا الوضع على المجتمع حسب، بل انتقدت المرأة أيضا لاسيما التي تستعبد ذاتها باختيارها أن تكون متبرجة مبالغة في الأناقة فتحكم على نفسها حكما قاهرا، يزج بها في ظلمات فلسفية وفكرية لا حصر لها. وابرز هذه المسالك المظلمة أنها تخلي حياة المرأة من فكرة الحرية إخلاء تاما بصنوف العبودية التي تعشعش في روحها، فيكون نموذجها نموذج الجارية في شخصيات ألف ليلة وليلة النسوية وهو النموذج السيئ للمرأة العربية أي الجميلة التي تسلي الرجل وتعيش بغرائزها وتطهو الطعام. أما المرأة المتعلمة التي تداري الغبن بغبن نفسها من خلال(التغطية السايكولوجية) فعدته الملائكة حالة شائعة، سببها سلبية الذكورية كسمة عامة وتاريخية في المجتمع العربي.
ومن الظواهر الاجتماعية الاخرى ما شخصته نازك الملائكة من هيمنة التجزيئية على الفكر العربي، كتجزئة اللغة عن الأخلاق أو العلم عن الدين أو الحرية عن الفكر. وبحثت في مسبباتها، فوجدتها تكمن في(جنوحنا إلى عزل الظواهر عن بعضها ودراستها مفصولة وكأننا نفترض ان حياتنا تتكون من مجموعة من المجالات المتضاربة التي اجتمعت مصادفة في خليط فنحن قد اعتدنا ان نلتقط من كل مستوى من مستويات الفكر نقطة نسلط عليها الضوء وندرسها معزولة عن سائر النقاط) وبسبب هذه التجزيئية صار المجتمع العربي قلقا وفقدت حياتنا ارتكازها وبدأت تنهار.
وربطت بين النسوية والتجزيئية، فالمجتمع يجزئ الناس إلى رجال ونساء ويعتبر العواطف شيئا مناقضا للتفكير والتعقل واستهجنت كيف تخصص الصحف والإذاعات للمرأة زوايا مبتذلة وصغيرة كما أن الغناء العراقي هو الآخر ينتقص المرأة اذ تكثر فيه صورة الفتاة اليتيمة وغريمتها المجهولة التي لا يملك قلبها حنان الإنسانية.
إجمالا، فإن خطاب نازك الملائكة الإصلاحي الساعي بإخلاص إلى بناء مجتمع جديد، هو ما يغض الطرف عنه المهتمون بالمجتمع العراقي والباحثون عن الريادات الفكرية وبواكير النزعة الاصلاحية في تاريخنا المعاصر؛ فلا يملكون سوى اجترار التحميد والتمجيد لمشروع اجتماعي بعينه، ويصمون آذانهم عن سماع نغمة غير النغمة التي صارت من كثرة الاجترار سمة من سمات العماء البحثي الذي يحول دون رؤية أصحاب المشاريع الاصلاحية الرائدة، وما أكثرهم من الذين تركوا أثرا تنويريا، كان المجتمع وقتذاك بحاجة ماسة إليه، فتربت الاجيال عليه، وتطلعت من خلاله الى مجتمع أفضل. وإذا كانت نسوية نازك الملائكة لوحدها مشروعا رياديا، فان جزءا آخر من فكرها كان مشروعا اجتماعيا مبكرا في الأخلاق والثقافة وإصلاح الذات والمجتمع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كفاح الأمين: أصبحت الكاميرا رديف كفاحي اليومي أثناء المقاومة الأنصارية

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

نازك الملائكة والمشروع الإصلاحي

من المطابقة إلى أفق الإمكان

قراءة في رواية (اكتشاف البطء)

مقالات ذات صلة

نظرةٌ نُظُميّة إلى الحياة
عام

نظرةٌ نُظُميّة إلى الحياة

لطفية الدليميعندما عثرت على نسخة ألكترونية من كتاب (الطاوية والفيزياء الحديثة) لم أتأخّرْ في قراءته. أضاف العنوان الثانوي للكتاب (استكشافُ التماثلات بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية) حافزا اضافيا لقراءة الكتاب. اعتبرت الكتابُ هدية كبيرة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram