لطفية الدليمي
ماذا عساك تفعلُ عندما تسعى لتشويه صورة إنسان معروف بنزاهته واستقامته الفكرية والانسانية؟ ستبحث في التفاصيل الصغيرة من تاريخه البعيد والقريب علّك تجد مثلبة (أو ما يمكن تأويله على أنه مثلبة). الحياة وَسَطٌ شديد التعقيد، والانسان فيها ليس كينونة جامدة لا تتغير بحسب تنامي خبراته وتعقيدها وتلوّنها بمؤثرات جديدة كل يوم.
أتحدّثُ عن تشومسكي. لم يجدوا في تاريخ الرجل سوى عبارة قالها في حوار أو كتاب ما. هذه العبارة هي: "كأنّ في دماغي جزءان؛ أحدهما علم محض في خدمة المؤسسة، والآخر نشاط سياسي ناقد له"". يرى الناقدون الكثر لتشومسكي في هذه العبارة اعترافاً شاخصاً بأن لا تواصُلَ ممكناً بين تشومسكي العالِم وتشومسكي الناشط السياسي. ربما يتغافل هؤلاء الناقدون عن النبرة التي قال في سياقها تشومسكي هذا الكلام. أراها من جانبي نبرة إعتذارية عن أفاعيل محدّدة فعلها ولم يكن راضياً عنها تماماً، ربما رآها مثالب بمنظار ضميره الواخز المتحسّس لصغائر الامور قبل كبائرها، ومثل هذه الافاعيل تبدو محتّمة في تاريخ إنسان له مكانته الاكاديمية والسياسية والثقافية الناشطة، ويعدُّ مثالاً سقراطياً للثقافة في عصرنا الحاضر.
قادت عمليات التنقيب المكثفة في تاريخ تشومسكي أحد الاساتذة الاكاديميين الامريكيين لتأليف كتاب عنه يَسِمُهُ فيه بالشيزوفرينيا متعددة الوجوه: شيزوفرينيا على أصعدة السياسة والوظيفة الاكاديمية. في السياسة (هكذا يرى المؤلف) دافع تشومسكي عن اليسار في الوقت الذي قضى جلّ عمره أستاذاً في معهد ماساتشوستس التقني MIT الذي يعدّه المؤلف قلعة متقدّمة لخدمة اليمين الامريكي (سياسات البنتاغون بالتحديد عبر العقود الضخمة للتطوير التقني). أما على صعيد الاكاديميا فيرى ناقدو تشومسكي عمله في بعض عقود التطوير التقني مع بداية التحاقه بمعهد MIT تناقضاً شيزوفرينياً لم يتأخروا معه في وصف تشومسكي بأنه ذو عقل ثنائي أحدهما بارد منطقي جاف لا يأبه بشيء من التفاصيل الانسانية، والثاني متسمٌ بنزعة إنسانوية طاغية جعلت من تشومسكي أحد مثابات اليسار العالية.
دعونا نترك موضوعة نبش تفاصيل صغيرة بعيدة في تاريخ أي انسان يراد تشويه صورته؛ فتلك سياسة خبرناها في مجتمعنا العراقي بكيفية أقسى وأمرّ وأكثر خشونة وقسوة وبُعْداً عن اللغة التي تتوسل الكياسة الاكاديمية. لنركّز على جانب المشتغل بالعلم والبحث العلمي في عالمنا المعاصر. من العبث أن نتصور مثل هذا المشتغل العلمي كائناً يعيشُ في عالم مثالي من الاخلاقيات الافلاطونية الصارمة التي تقيسُ سلوكيات الناس بمسطرة. ربما كان عالم الاجتماع الالماني (ماكس فيبر) من أوائل المنتبهين لهذه المسألة الخطرة فكتب كتابه المرجعي ذا القيمة التاريخية الفائقة (العلم والسياسة بوصفهما حرفة). العالِمُ قبل أن يكون صانع أفكار أو منتجات تقنية أو الاثنين معاً هو موظف في قطاع عام أو خاص، وكل قطاع له سياساته وشروطه، ولو أننا آثرنا العمل بوحي ضميرنا فحسب وتشدّدنا كثيراً في هذا الجانب فربما لن نجد مَنْ يوظفنا. أتحدث هنا عن العالم الغربي الموصوف بشيوع تقاليد ليبرالية وديمقراطية مقبولة بهذا القدر أو ذاك؛ أما في بلداننا العربية فانسَ الامر تماماً. أنت (برغي) صغير في ماكنة الحكومة، وحتى القطاع الخاص له علاقات وسياسات تخادم محسوبة مع أطراف في الحكومة. أنت لا قول أو رأي لك؛ فالرأي ما رأت الحكومة والمتنفذون من الساسة!!
ماذا تريدون من تشومسكي؟ هل تريدونه أن يرفض - وهو في بواكير حياته الاكاديمية- العمل في MIT بسبب عمله في عقد تقني تطويري للمعهد مع البنتاغون؟ ماذا لو رفض؟ كان سيغادر عالم الاكاديميا مع ضائقة مالية مزمنة ربما ستجعله يمارس أعمالاً لن تتيح له فسحة من وقت وجهد لتطوير رؤيته ونظرياته بشأن اللغة والنحو والذهن والتفكّر الدقيق بالشأن العالمي. كنّا حينئذ سنخسر تشومسكي الذي عرفناه. عندما لا تأكل جيداً لن يعمل عقلك كما تريد، والعمل في جامعات النخبة الامريكية يوفّرُ للمرء حياة لائقة من الناحية المالية، وبغير هذه الحياة لن يستطيع تحقيق الكفاءة الاكاديمية والثقافية التي يطمح لها.
لا أكتب هذه المقالة دفاعاً عن تشومسكي بقدر ما أطمح لفهم طبيعة عمل المرء وكيف يمكن أن يتخذها بعض المشاكسين وسيلة لتشويه السمعة والتاريخ والاسم.
تشومسكي الهادئ، العالِم، الانسان أفضل عندي من كثرةٍ من أصحاب الاصوات الزاعقة التي لا تتقن شيئاً سوى الادانة والرغبة المرضية في تشويه الآخرين، وكأنّ هذا التشويه يعزّز مناسيب طهرانيتهم المتخيلة وأرجحيتهم الأخلاقية وعلو مقامهم الانساني.
العيش عمل شاق، والعالم مكان شديد الخطورة والتعقيد، وبوركت حياةُ من عاش هذه الحياة وغادرها وهو يحوز عشر معشار الأخلاقيات التي عاشها تشومسكي وروّج لها في حواراته وكتبه التي جاوزت المائة.