د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
- الى خليل العلي
في 7 آذَار / مارس 2018 أُعلن في "شيكاغو" بالولايات المتحدة الامريكية، عن فوز المعمار الهندي المعروف "بالكريشنا فيثالداس دوشي" (1927 - 2023) Balkrishna Vithaldas Doshi، بجائزة "بريتزكر" Pritzker المعمارية المرموقة (المكافئة على المستوي المهني لجائزة نوبل)، الجائزة التى تمنح سنويا للمعماريين الاحياء "حصراً". وكان المعمار وقتها عندما مُنح الجائزة حياً يرزق قبل ان يتوفي لاحقا في 23 كانون الثاني سنة 2023. وبهذا المنح، فقد ذكرتنا الجائزة البارزة، بقيمة "العمارة المحلية"، وبمعنى الالتزام والواجب الاخلاقي الملقى على المهنيين في ادراكها والتعاطي معها اسلوبياً ونوعياً. ففوز "دوشي" بها - كما كتب عنه، ذات يوم من عام 2018، بمناسبة منحه تلك الجائزة الرفيعة - ".. يحمل رسالة خاصة: مفادها من ان ثمة "مفهوماً" آخراً، يمكن ان يكون عليه ذلك المنجز الابداعي، الذي نسميه <عمارة>. فعمارة هذا الرجل المفعم بالحب الانساني، مثلما هي بعيدة عن البهرجة، فهي ليست مهتمة كثيراً وراء صرعات الاساليب والطرز المتنوعة المتخم بها الخطاب المعماري المعاصر، على الرغم من انه يجعل، وباعترافه شخصياً، ما ينتج معمارياً حديثا في اوربا او في امريكا، هو احد مصادر الهامه الابداعي".
وتبقى عمارته، بنماذجها المتنوعة، والمميزة التى داب على انجازها طيلة 60 سنة من العمل المهني المستمر، العمارة المترعة بالحس المكاني، والمعرفة التامة بتقاليده البنائية، مضاف اليها الشغف المهني والولع في تقديم كل ذلك لمحتاجيها من الناس البسطاء؛ تبقي تمثل احدى مفاخر الهند واحد تجليات ثقافتها الرفيعة. وهو يقول جوابا عن سؤال، عن ما يعنيه لديه كرائد لعمارة الاسكان منخفض الكلفة، وما حققه في مشروع "ارانيا" في ولاية "ماديا برادش"(وهو مشروع اسكاني ضخم انجزه بالثمانينات، لسكن ذوي الدخل الواطئ) واهتماماته العميقة بالجانب الاجتماعي وربطه في الناتج المعماري، يقول "عندما كانت اتجول، ليلاً، في شوارع مدينة "مومباي".، شاهدت الناس المهاجرين من انحاء الهند، وهم يفترشون الارصفة نياماً، وبقيت تلك الصورة عن حياتهم الليلية في ذاكرتي طويلا ولا يمكن محوها او ازالتها. وقلت، حينها، لنفسي، اليس هذا جزءا من الهند، اليس هم شعبي؟ وقررت، عنداك، باني ساعمل لهذا "النصف الثاني"، واقدم رؤيا عن كيفية عيش اؤلئك الناس، وكيف لنا ان نبني لهم. ويبقى السؤال لدي عالقاً (يستطرد في اجابته "دوشي") ما هو دور المعمار؟ هل يفترض به ان يشيد صروحاً فقط؟، هل يتعين عليه العمل مع زبائن محددين؟ اليس الوعي الاجتماعي جزءاً من واجب المعمار؟ ولقد كان هذا تحديا حقيقيا لي، لكني سعيت الى مواجهته!"
ولد "بالكريشنا دوشي" في عام 1927 بمدينة "بيون" Pune بولاية غوجارات (الواقعة في اقصى الشمال الغربي للهند) في عائلة هندوسية كانت تعمل في صناعة الاثاث. اظهر اهتماما مبكرا بالشأن الفني، ودرس العمارة ما بين 1947 -1950 في مدرسة السير ج.ج. المعمارية في بومباي، وهي اقدم مؤسسة تعليمية معمارية في عموم الهند. وحالما انهى تعليمه قادت طموحاته واهتماماته المعمارية لركوب سفينة من الهند الى لندن، وكان يحلم في الانضمام الى المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين، وثم الانتقال الى باريس للعمل في مكتب لوكوربوزيه الذي كلف وقتها في اعداد مخططات عديدة الى الهند بضمنها تخطيط وتصميم مدينة جنديكار في البنجاب. وقد عمل "دوشي" فعلا في مكتب المعمار العالمي لسنوات قبل ان يعود الى الهند للاشراف على تنفيذ تلك التصاميم الهندية التى اعدها كوربوزيه ونالت (..ولاتزال تنال) اهتماما معماريا واسعاً. كما عمل "بالكريشنا دوشي" لاحقا مع "لويس كان" (1901 – 1974) Louis Kahn، ايضاً، عندما كلف الاخير في اعداد بعض التصاميم للهند.
في عام 1956، أسس "دوشي" شركته الخاصة، Vastushilpa، والتي تم تغيير اسمها منذ ذلك الحين إلى Vastushilpa Consultants وتطورت لتوظف خمسة شركاء وستين موظفًا وأكملت أكثر من 100 مشروع منذ إنشائها. صاغ رؤيته الفنية الخاصة باحترام عميق للحياة والثقافة الشرقية وقوى الطبيعة لإنشاء بنية شخصية، مليئة بالمناظر والأصوات والذكريات من ماضيه. إلى جانب الاحترام العميق للتاريخ والثقافة الهندية.
ومن بين مجموعة عديدة من المباني المكتملة، التي تشمل المؤسسات والمجمعات متعددة الاستخدامات ومشاريع الإسكان والأماكن العامة والمعارض والمساكن الخاصة، يتذكر دوشي أحد أكثر مساعيه الشخصية، سانجاث (أحمد أباد، 1980)، وهو استوديو الهندسة المعمارية الخاص به. "يدمج Sangath الصور والجمعيات لأنماط الحياة الهندية. يتكامل الحرم الجامعي، وتتصادم ذكريات الأماكن التي تمت زيارتها، مما يستحضر ويربط الحلقات المنسية. سانجاث هي مدرسة مستمرة حيث يتعلم المرء وينسى ما تعلمه ويتعلم من جديد. لقد أصبح ملاذاً للثقافة والفن والاستدامة حيث يتم التركيز على الأبحاث والمرافق المؤسسية والحد الأقصى من الاستدامة.
أسس مؤسسة فاستوشيلبا للدراسات والأبحاث في التصميم البيئي في عام 1978 لتطوير معايير التصميم والتخطيط الأصلية للبيئات المبنية المناسبة للبيئة الاجتماعية والثقافية والبيئية في الهند. وهي اليوم بمثابة حلقة وصل فعالة بين الأكاديميين والمستشارين المحترفين. كان دوشي هو المؤسس والمدير السابق والرئيس السابق لكلية الهندسة المعمارية والتخطيط (أحمد آباد، 1966-2012)، والتي تم تغيير اسمها إلى جامعة CEPT في عام 2002. وفي وقت لاحق، واصل الإقامة في أحمد آباد بصفته العميد الفخري.
بعد أن تم الاعتراف به على الصعيدين الوطني والدولي، حصل "دوشي" على جاءزة "بريتزكر" عام 2018 (كما أشرنا)، وعلى وسام الفنون والآداب الفرنسي (2011)؛ الجائزة العالمية لإنجاز العمر للهندسة المعمارية المستدامة، المعهد الفرنسي للهندسة المعمارية، باريس (2007)؛ جائزة رئيس الوزراء الوطنية للتميز في التخطيط والتصميم الحضري، الهند (2000)؛ جائزة الآغا خان للعمارة (1993-1995) للإسكان المجتمعي في أرانيا؛ الميدالية الذهبية، أكاديمية الهندسة المعمارية في فرنسا (1988)؛ الميدالية الذهبية، المعهد الهندي للمهندسين المعماريين (1988)؛ وجائزة بادما شري الوطنية، حكومة الهند (1976). دوشي هو زميل المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين والمعهد الهندي للمهندسين المعماريين، وزميل فخري للمعهد الأمريكي للمهندسين المعماريين. عمل في لجنة تحكيم جائزة بريتزكر في الفترة من 2005 إلى 2007، وفي لجان الاختيار لمركز أنديرا غاندي الوطني للفنون وجائزة الآغا خان للعمارة.
تم افتتاح معرض استعادي لأعماله بعنوان "الاحتفال بالموطن: الحقيقي والافتراضي والخيالي" في المتحف الوطني للفنون الحديثة، دلهي، الهند (2014)، وقد ألقى مؤخرًا المحاضرة السنوية السابعة والعشرين للهندسة المعمارية في الأكاديمية الملكية للفنون، لندن، المملكة المتحدة (2017).
ويشعر كثر من المعماريين والمخططين، (مثلما، ايضاً، اشعر أنا شخصياً)، بفخر، بما اجترحه هذا المعمار المجد، وخصوصا مقترحاته، ومشاريعه، ودراساته في ايجاد حلول مرضية لازمة السكن، وخصوصا في مشاريع اسكان ذوي الدخل الواطئ، ذلك لاني ارى، ان ما كنت انادي به طيلة سنين عديدة، من خلال دراسات ومقالات كثيرة نشرتها في الميديا العربية، بضرورة واهمية التعرف والتعلم لما حققه "الآخر": القريب والمجاورفي ايجاد حلول لمثل تلك المشاكل المزمنة التى تواجهها مجتمعاتنا، والتى يتتطلب حلها، فيما يتطلب المعرفة العميقة وادراك ما انجزه الآخرون ازاء تلك الاشكاليات المهنية والمعرفية. لقد كتبت، سابقا عن اهتمامات المعمار "دوشي" والمعمار "جارلس كوريا" واهتمامات معماريي ايران وتركيا وباكستان وغيرهم، عن قضايا مهنية واجهتهم مثلما ماوجهتنا، وناديت بقيمة تلك الحلول ونفعيتها وبضرورة التعلم منها. لكن تلك الاشكالية المعرفية، مع الاسف، بقيت غائبة عن النشاط المهني وادبيات خطابه السائد في مجتمعاتنا. وهو امر، يعوق، من دون ادنى شك، مسعاينا للوصول الى حلول مقنعة وعقلانية لتلك القضايا المهمة التى بقيت غالبيتها بدون حل، وحتى من دون اهتمام.
واذ نحتفي بعمارة "دوشي" فاننا نحتفي بعمارة مبدعة ومميزة، حافلة بالحس الانساني، الذي تاق المعمار الهندي المعروف، ان تكون السمة الاخيرة تلك، عنوناً لعمارته، ومبررا لوجودها؛ هو الذي لم يقتصر نشاطة على الانتاج المعماري لوحده، وانما شمل ايضا اهتماماته الكبيرة في الدرس الاكاديمي، ورعايته ومساهمته في رسم وتوجيه المشاريع التخطيطية والاسكانية للكثير من مدن الهند. وعلى مر السنين، ابتكر دوشي هندسة معمارية تعتمد على التبني الحساس وتحسين العمارة الحديثة ضمن السياق الهندي. إن أهمية اهتماماته البيئية والحضرية تجعله فريدًا كمفكر ومعلم للفضاء المعماري والكتلة، بالإضافة إلى الإحساس الواضح بالمكان والمجتمع وهو ما يميز معظم أعماله. وبهذا تقدم عمارة دوشي أحد أهم النماذج للعمارة الهندية الحديثة.
ادناه بعض الاقوال المنسوبة الى "بالكريشنا دوشي" جمعتها وسجلتها من احاديث وردت اثناء مقابلات اجريت معه او مستلات من محاضرات القاها في تجمعات مهنية في مختلف دول العالم، تعكس بشكل وبآخر نوعية "ذهنية" المعمار وتصف خصوصية المقاربة المعمارية التى يتبناها المعمار الهندي المعروف.
".. أعمالي هي امتداد لحياتي وفلسفتي وأحلامي، وهي محاولة لخلق ذخيرة أو خزانة تتسم يروح معمارية " -
"لقد تعلمت من لو كوربوزييه اهمية المناخ والتفاعل معه، كما تعلمت منه احترام التقاليد، والعمل، وقيمة التراكيب، والاقتصاد، والمناظر الطبيعية في الحل لاتصميمي. وإلى حد ما، أفهم أيضًا كيفية بناء المباني وإنشاء الفضاءات والأشكال. ومع ذلك، لقد اكتشفت تدريجياً في العقدين الماضيين أن المباني التي قمت بتصميمها تبدو غريبة إلى حد ما وخارجة عن البيئة؛ أحاول أن أفهم شعبي بعمق وافهم تقاليده وعاداته الاجتماعية وفلسفته في الحياة".
"التصميم هو التكيف مع أسلوب الحياة، والاندماج معه. أعتقد أن هذا ما أحاول اكتشافه، حتى لا نفقد الحس الجمالي، بل نعزز ونخلق إحساسًا جماليًا فريدًا يندمج في حياتنا."
"لقد أكدت دائمًا على أهمية الخيال وتصورات الابداع، لأن ذلك مغروس في ثقافتي وعائلتي. تلعب القصص دورًا مهمًا في الحياة اليومية. الصور تثير الأفكار. والأفكار تربط التجمعات. يتم إثارة التجمعات من خلال القصص الخيالية. القصص تخلق الأساطير، والأساطير تؤدي إلى روايات جديدة وحقائق جديدة."
"العمارة الحقيقية هي الحياة"
"لقد حاولت ان أثبت بأن العمارة الجيدة وتخطيط المدن لا ينبغيا لهما أن يحصرا في الهدف والبنية فحسب، بل عليهما ان يأخذا في نظر الاعتبار المناخ وخصوصية الموقع والتقنية والحرفية. يتعين أن تتجاوز التصاميم الأداء الوظيفي وتتواصل مع الروح الإنسانية من خلال الشعر والفلسفة"
".. اعتقد أن الهدف الرئيسي للهندسة المعمارية يجب أن يكون مثل سقوط حجر في بحيرة، بحيث تصل التموجات إلى الحافة مباشرةً. إن دور المهندس المعماري هو النظر إلى آفاق أوسع بكثير ونطاقات أوسع بكثير والدخول في صميم تلك الامور"
".. أنا مدين بهذه الجائزة المرموقة (جائزة بريتزكر) لأستاذي لو كوربوزييه. اذ أعطتني أفكاره فهمًا مختلفًا للعمارة المحلية، واعتماد وسائل حديثة لخلق بيئة معيشية مستدامة وشاملة"… وأود أن أشكر لجنة تحكيم بريتزكر على تقديرها لعملي"… ".بالنسبة لي، العمارة هي رحلة. أنها ليست مبنى ثابتًا". وهو ينظر إلى فوزه ببريتزكر باعتباره نتيجة مبهجة لتلك الرحلة. ".. إنه اكتشاف عظيم أن تعرف أن هناك شيئًا غير معروف، لا يزال بجوارك أو بجوارك مباشرةً. وهذا المجهول هو الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في الحياة، انها: المفاجأة".