ستار كاووش
قيمة السفر تُكمِنُ في مشاهدة أشياء وتفاصيل وأماكن مختلفة، جديدة، نادرة أو ممتعة. أما إذا إجتمعت كل هذه التفاصيل في مكان واحد مثلَ بارك (ديلا ديساتيل) في مدينة ليل، فهنا عليَّ أن لا أُفَوِّتُ فرصة زيارته أثناء وجودي في هذه المدينة. هكذا سحبتُ خطواتي من وسط المدينة نحو الجانب الغربي لها، قاطعاً بعض الشوارع والساحات ومتجاوزاً المقاهي التي تفترش الأرصفة هنا وهناك، والمطاعم الصغيرة التي تنبثق من كل من الزوايا والمنعطفات وتصل روائحها المختلفة الى المارة على بعد مسافات طويلة. وما أن صرتُ على مقربة من البارك حتى رأيتُ مجموعة من الشباب والشابات في العشرينات من أعمارهم، يحملون بعض القناني الزجاجية الداكنة، ويحتضنون أكياساً ورقية مليئة بالطعام، متجهين بغبطة نحو الأفق الأخضر للبارك. وحين صرتُ على بعد خطوات من هذا المكان المليء بالحياة، بانَ لي شاباً مستلقياً على العشب ويمسك كتاباً، فيما صديقته تضع رأسها على كتفه وتستلقي مع كتابها أيضاً، ليشكلان رقم ثمانية وهما منغمران بالقراءة. الكثير من القنوات المائية التي يحاذيها العشب تجعل البارك مكاناً مثالياً لمجاميع الشباب الذين يفترشون العشب ويستمتعون باللعب والقراءة والأكل والشرب، حيث تصل ضحكاتهم الى آخر البارك.
مضيتُ بجولتي أكثر فبانتْ لي الجوانب الواسعة من القنواة المائية، والتي إصطفت على سطوحها مجموعة كبيرة من السفن القديمة التي تحولت الى مقاهٍ ومطاعم وحانات. نظرت الى واحدة منها حيث الكثير من الشباب الأنيقين والسيدات بملابس الحفلات، فيما النادل الأنيق الذي صَفَّفَ شعرة بعناية يوزع أبتسامته مع الشراب، حتى خُيِّلَ لي بأن هؤلاء قد خرجوا تواً من لوحة رينوار الشهيرة (غداء البحارة). في الجهة المقابلة لهذه المقاهي العائمة لمحتُ نصب الحَمام، فعبرت نحو الجهة الثانية وتوقفتُ أمام هذا النصب الكبير الذي أنجزه النحات جاك ألسمان من الحجر وبإرتفاع عشرة أمتار تقريباً، وموضوع هذا النصب المذهل قد يبدو غريباً للكثيرين، حيث يُشير الى عشرين ألف حمامة فرنسية أطلق عليها الألمان الرصاص أثناء الحرب، كذلك قاموا بقتل مربي هذا الحمام. وقد قدَّمَ هذا الحمام خدمة عظيمة الى فرنسا أثناء الحرب، حيث كان يستخدم في ارسال المعلومات والاشارات قبل أن يتم استخدام الاجهزة الحديثة عبر الأثير. ويمثل النصب إمرأة واقفة تحيط بها أسراب الحمام، وفي الأسفل ثعبان كبير يتلوى تحت درع حربي، وهو يشير الى العدو الألماني. وهناك ريليف أسفل النصب يظهر فيه جنود فرنسيون يطلقون الحمام كمحاولة للتواصل مع العالم الخارجي قبلَ لقاء حتفهم.
مضيتُ في جولتي وسط البارك الذي يمتليء بآلاف الناس ومن كل الأعمار. الوقت لا يكفي لرؤية كل شيء في هذا المكان الجميل، لذا غيَّرتُ إتجاهي نحو جادة طويلة محاطة بالأشجار ومحاذية للقناة الرئيسية، قطعتها وأنا أُتابع المارة والناس المنشغلين بالحياة والضوء والتواصل مع بعضهم ومع الطبيعة والعشب القريب من الماء، فلاحَتْ لي بناطيل قصيرة، تنورات طويلة وقصيرة، قبعات، مظلات، حقائب، كلاب صغيرة، أقداح، كل ذلك وسط ضحكات ووضعيات إسرخاء جميلة، وكإن الناس هنا يستعيدون لوحة مواطنهم سوراه (ظهيرة يوم الأحد في البارك) في هذا اليوم الذي لا يريدونه أن ينتهي. الفرنسيون إضافة الى حبهم للطعام الجيد والشراب الفاخر، فهم يعشقون الحياة ويعرفون التمتع بها، وحين تكون الأيام مشرقة فهم لا يترددون بالخروج بكامل أناقتهم للتمتع بالحدائق والهواء المنعش قرب الأنهر والقنوات المائية.
وصلتُ الى نهاية البوليفار المحاط بالأشجار، حيث لاحَ لي جسر نابليون الذي كان هدفي الأساسي من هذه الإنعطافة، والذي يعتبر من أجمل جسور المشاة في فرنسا، ينتصب على جانبيه أربعة تماثيل من الحجر الأسود بهيئة أُسود ووجوه نساء، بالأسلوب المصري القديم. وقد مرَّتْ على هذا الجسر كثيراً من الحوادث والمتغيرات، فتماثيل الأُسود الأصلية قد تمت سرقتها في ثلاثينيات القرن العشرين، وتَمَّ صنعها من جديد وبشكل متطابق تماماً مع الأصل. وقد بُنيَ هذا الجسر أول مرة سنة ١٨١٢ بواسطة الخشب، لكن دمرته القوات الألمانية سنة ١٩١٨ خلال الحرب العالمية الأولى، وقد أعيد بناءه سنة ١٩٢٢، لكن تم تدميره مرة أخرى من قبل الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا مات هذا الجسر عدة مرات، لكن الفرنسيون كانوا يعيدونه في كل مرة الى الحياة. يعود الجسر بهيئته الحالية للمهندس إيتيان سينتيف، ويعتبر من التحف المعمارية الفرنسية، حيث استخدم السكان صورته مراراً كبطاقة بريدية. ومن الدعابات الفرنسية التي سمعتها، هي إنهم يُشَبِّهونَ هذا الجسر بالقطة، لأنه هاديء، كذلك لأن لديه سبع أرواح ولا يموت. كذلك ينصح الأهالي كل شخص يحتاج الى لحظة تأمل حقيقية أن يذهب الى هذا المكان في الحادية عشرة مساء ويقف في منتصف الجسر عندَ إكتمال القمر تماماً، حيث يتحول المكان لحظتها الى نوع من السحر، وسيرى مشهداً لم يُشاهد مثله في حياته ويعرفَ معنى التأمل وهو مُحاط بجمال لا يمكنك نسيانه أبداً. صعدتُ فوق الجسر، ووقفت في المنتصف، لكن يبدو أن الوقتَ مازال مبكراً كثيراً على اكتمال القمر، مع ذلك استعدت لحظة حميمية وجميلة وأنا أنظر الى الماء وهذا الهدوء الأخضر الذي تناغم مع هذه التحفة التي أخذت هيئة جسراً للمشاة. عبرتُ الى الجهة الأخرى بعدَ أن مرَّرتُ يدي على تمثال أحد الأُسود الداكنة، ومضيتُ نحو الوجهة الثانية للبارك، باحثاً عن طاولة صغيرة في أحد السفن التي تحولت الى مقاهٍ عائمة.