اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > التعديل والأهلية.. جدل الفقه الجعفري مع قانون الأحوال الشخصية في العراق

التعديل والأهلية.. جدل الفقه الجعفري مع قانون الأحوال الشخصية في العراق

نشر في: 30 يوليو, 2024: 12:01 ص

علي المدن

مرة أخرى تفشل مساعي تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق بعد أن سبقتها محاولة أولى عام 2017 تقدم بها النائب حامد الخضري. وكما أعلنت تحفظي في المرة الأولى، وكتبت مقالين نشرتها في العام المذكور، أعلنتُ تحفظي في هذه المرة أيضاً. ومن خلال متابعتي للمعترضين على مقترح التعديل لم أجد كاتبا واحدا اعترض على التعديل كتعديل، ولم يناقش أحد في أن القوانين تحتاج دائما إلى المراجعة والإصلاح والتطوير، وإنما اعترض المعترضون على مقترح بعض النواب الإسلاميين الشيعة بالتعديل فقط لأنه ينطوي على مشاكل في بنوده البديلة، ولأنه في رأي المعترضين يضر بالأسرة العراقية ويزيد من الفجوة بين العراقيين على خلفية انتماءاتهم المذهبية، في حين أن المطلوب من تعديل القانون هو نفع الأسرة العراقية وتوحيد العراقيين في مدونة قانونية واحدة.
كان من بين المعترضين على التعديل بصيغته الأخيرة الدكتور حسين المؤيد، الفقيه الشيعي السابق، والذي ترك المذهب الجعفري لاحقاً. يرتكز اعتراض المؤيد على فكرة جوهرية وهي عدم أهلية الفقه الجعفري على سنّ قوانين لأدارة الدولة عامة، وفي مجال الأحوال الشخصية خاصة. وفي تقديره أن النواب المطالبين بالتعديل أخطأوا حين لم يدركوا (عدم صلاحية الفقه الشيعي الاثني عشري، بوضعه النمطي الموجود الى الآن، ليكون مرجعا لقوانين الدولة في الأحوال الشخصية، لأنه فقه بني منذ قرون وبقي - ما عدا نماذج محدودة - يقدم الأحكام الفقهية على مستوى الفقه الفردي، وأن آلية الاستنباط وأصول هذا الفقه، بنيت في هذا الإطار، وبالتالي فهو فقه قاصر وعاجز في وضعه الموجود عن تقديم فقه الدولة و الفقه المجتمعي). وهنا يدعم المؤيد رأيه بما قاله محمد باقر الصدر في أكثر من موضع من كتبه من أن الاجتهاد الفقهي السائد يفتقد إلى (الفهم الاجتماعي للنصوص)، وأن الفقه الجعفري - والعبارة للمؤيد - صيغ في (قالب الفهم الفردي للنصوص واستنباط الأحكام الفقهية على مستوى الأفراد، بينما فقه الأفراد غير فقه الدولة والمجتمع).
إن لي هنا تعليقا حول ما أفاده الدكتور المؤيد، ولكنني سأحاول أولا تفصيل الإشارة التي وردت في كلامه حول رأي الصدر، حتى إذا انتهيت من ذلك أعود لذكر نقطة أخرى أرى أنها تمثل مشكلة أمام الفقه الجعفري أبعد قليلا مما ذهب إليه المؤيد.
إن رأي الصدر الذي يشير له المؤيد جاء بنحو خاص في مقالين:
الأول، هو: (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد) حيث تحدث عن مشكلة التطبيق الفردي لأحكام الإسلام في مقابل التطبيق الاجتماعي لها، وأن "الإنكماش" في أهداف العملية الاجتهادية و"العزلة" عن التطبيق في المجالات الاجتماعية المتنوعة، أثرّا في (تسرب الفرديّة إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها)، ولكن هذه الحالة في نظر الصدر - وهذا ما لم يشر له المؤيد - وإن كانت قديمة في الفقه الجعفري لأسباب تاريخية تتعلق بعدم ممارسة هذا الفقه للحكم وادارة الدولة (وهنا يهمل الصدر إهمالا كاملا تجربة الفقه الجعفري في ايران التي تعود إلى زمن الدولة الصفوية منذ خمسة قرون وحتى العصر الحديث) إلا أنها لم تقتصر على الفقه الجعفري فقط، بل شملت جميع فقه المسلمين بعد صعود التيارات الفكرية الحديثة التي لم تجعل من الفقه الإسلامي قاعدة فكرية للدولة ونظامها التشريعي. ومسألة "جعل الإسلام قاعدة فكرية للدولة" واحدة من أهم ركائز "الإسلام السياسي" الذي نظّر له الصدر، وكانت له نتائج فكرية وسياسية كبيرة في مسيرته العلمية، قبل أن تُختصر أخيرا في دساتير جملة من الدول ذات الأغلبية المسلمة بفكرة (عدم سن قوانين تعارض الثابت من أحكام الإسلام). من هنا يتضح أن فكرة التطبيق الفردي التي أشار لها المؤيد في كلام الصدر هي في الواقع مشكلة عامة في نظر الصدر، يعاني منها فقه المسلمين بمذاهبهم كافة، على أن دعوى الصدر بعزلة المذهب الإمامي تاريخيا ليست صحيحة تماما لأننا نعلم أن فقه هذا المذهب معتمد عليه في فقه الدولة (الإيرانية تحديدا) منذ قرون.
والثاني، هو مقال (الفهم الاجتماعي للنص في كتاب "فقه الإمام الصادق") الذي نشره عام ١٩٦٧ بمناسبة صدور كتاب (فقه الإمام الصادق) للفقيه والمفكر اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية، وكانت فكرة الصدر التي جادل حولها في هذا المقال هي أن الخبرة في قراءة النص بالاعتماد على الفهم الاجتماعي تختلف عن الفهم اللغوي والسياقي له، وهو ما يعبر عنه في أصول الفقه الإمامي ب(مناسبات الحكم والموضوع) الذي يشبه إلى حد كبير آلية (السبر والتقسيم) المعمول بها في المذاهب الفقهية الأخرى لدى المسلمين. ولقد كانت النتيجة التي انتهى إليها الصدر أن الأحكام الواردة في الروايات الشيعية تمثل أجوبة عن "حالات خاصة" هي عبارة عن "أسئلة الرواة"، ولا يصلح أخذها كموارد حصرية للتعبير عن الأحكم الشرعية، وبالتالي فإن الفهم الاجتماعي لها يمنحنا إدراكا (للحدود المحتملة لتلك الأحكام). أي يمنحنا القدرة على معرفة ما تتسم به هذه الحالات الخاصة من جوانب تاريخية مرتبطة بزمانها واستيعاب الملاكات العميقة التي تأسست عليها تلك الحالات. بناء على ذلك يكون حديث الصدر عن "الفهم الاجتماعي" مساهمة في تطوير العملية الاجتهادية الشيعية وليس نقدا يدعو إلى اعتزالها كما يذهب إليه الدكتور المؤيد.
بعد هذا الجولة السريعة في توسيع النقاش في النقطة التي أشار إليها الدكتور المؤيد أحاول الآن تعميق النقاش بإثارة نقطة أخرى أبعد تأثيرا في تناول أزمة الفقه الجعفري وعلاقته بالدولة والمجتمع الوطني المتنوع.
النقطة هي أن العملية الاجتهادية الشيعية وهي تتعامل مع نصوصها التأسيسية (الروايات المنقولة عن أئمة المذهب الإمامي) واجهت منذ القرن الثالث الهجري حقيقة وجود اختلاف وتعارض كبير جدا في نصوص تلك الروايات، وهذه قضية أشار لها الكليني في مقدمة كتابه الكافي، وابن بابويه القمي في كتابه "من لا يحضره الفقيه"، وأبو جعفر الطوسي في كتابه "تهذيب الأحكام"، بل إن الأخير صرح في كتابه (العدة في أصول الفقه) بأن اختلافات فقهاء المذهب الجعفري أكثر حتى من اختلافات فقهاء المذهب الحنفي والشافي والمالكي مجتمعين. إن هذه الاختلافات جعلت من العملية الاجتهادية الجعفرية ترتكز بالدرجة الأساس على معالجة هذا التعارض والاختلاف؛ ولذا قال أحد أعاظم فقهاء الشيعة المتأخرين، وهو الشيخ محمد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد (ت ١٧٩١ م) (إن جلّ الأحكام الفقهية، بل كاد أن يكون كلّها، من الجمع بين الأدلّة) (الرسائل الأصولية).
هذا الواقع الفقهي دفع العملية الاجتهادية الشيعية إلى تطوير مبحث التعارض والترجيح في علم أصول الفقه، وقد ذكروا هنا عدة معايير لمعالجة ورفع هذا التعارض والاختلاف، منها بعض المبادئ الأساسية في تقديم بعض الروايات على بعض، كالأوثقية والأعدلية والأصدقية والأروعية في صفات الراوي، فمن كان يتمتع بتلك الصفات (بالترتيب المتقدم أو بتريب أخر) كانت روايته مقدمة سندا على روايات الناقلين الباقين. ولكن الأمر لا ينتهي هنا، بل بالكاد بدأ تواً!! إذ من مبادئ الترجيح والتقديم في الفقه الجعفري هو مبدأ "مخالفة العامة"، أي مخالفة فتاوى بقية المسلمين من المذاهب الأخرى. لقد كان هذا المبدأ نافذا في جميع المراحل التاريخية لتكوين الفقه الشيعي الجعفري، وفي القرون الأخيرة جمع الفقيه والمحدث الشيخ الحر العاملي (ت ١٦٩٣ م) تلك الأخبار الداعية للعمل بهذا المبدأ في كتابه (هداية الأمة إلى أحكام الأئمة)، نختار منها هذه العينة، وأغلبها منقولة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، قال: (دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم)، ومنها: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما يخالف القوم)، ومنها: (ما أنتم والله على شيء مما هم فيه، ولا هم على شيء مما أنتم فيه، فخالفوهم، فما هم من الحنيفية على شيء)، ومنها: (قال (عليه السلام) لرجل: أتدري لم أُمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ قال: لا، فقال: إن علياً عليه السلام لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمةُ إلى غيره، إرادةً لإبطال أمره). ومنها: عن علي بن أسباط قال: قلت له (أي الأمام علي بن موسى الرضا) يحدث الأمر لا أجد بُدّاً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، فقال: ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيء، فخذ بخلافه؛ فإن الحق فيه‌).
إن هذه الأخبار بلغت حد الاستفاضة بحسب المحدث البحراني (ت ١٧٧٢ م) (الحدائق الناضرة)، بل اعتبرها الوحيد البهبهاني متواترة (حاشية الوافي)، وضرورة من ضرورات عمل الشيعة (الرسائل الأصولية)، و"الطريقة المعهودة من القدماء والمتأخّرين من علماء الشيعة" (حاشية الوافي)، "وطريقة الشيعة في الأعصار والأمصار" (مصابيح الظلام). ووفقاً لأحد أكبر الفقهاء المتأخرين، وهو الشيخ حبيب الله الرشتي (ت ١٨٩٤ م) فإن هذه الأخبار إنما (وردت للطعن في المتذبذبين ممن يحاول أن يجد بين التشيع والتسنن سبيلا) (بدائع الأفكار).
إن ما أريد قوله بعد هذه الجولة السريعة جدا حول تغلغل مبدأ (الرشد في خلافهم أو ما هم من الحنيفية على شيء أو أئت فقيه بلدك أو أجابك من جراب النورة … وكلها تعبيرات على فكرة "المخالفة للعامة") في العملية الاجتهادية الجعفرية، وأمثلتها التطبيقية التي تفوق الحصر في الموسوعات الفقهية الإمامية: إن مسألة النظر في أهلية الفقه الجعفري تتعادي ثنائية فقه الفرد / وفقه الدولة، لأنها تمس تكوينه البنيوي في كشف وبناء رؤيته الفقهية داخل الدولة وفي المجتمع الوطني المتعدد مذهبيا. وما لم تعالج هذه الآلية الاستنباطية التي يقوم عليها العقل التشريعي فمن الصعب تخيل وجود مساهمة فاعلة لهذا الفقه وطنيا.
لقد صدرت عدة محاولات للنظر في هذا المبدأ ومراجعته من قبل بعض الفقهاء المتأخرين كالقول إنه يخص موارد التقية فقط، أو أهل الرأي والقياس أو يتناول فقط الموارد التي انفرد فيها فقهاء المذاهب الأخرى من المسلمين (انظر على سبيل المثال: محسن الأمين في كتابه "نقض الوشيعة"، ومحمد جواد مغنية في كتابه "علم أصول الفقه في ثوبه الجديد"، ومحمد باقر الصدر في كتابه "تعارض الأدلة الشرعية") ولكن من المؤكد أن ذلك ليس ما فهمه جميع المتقدمين من فقهاء الشيعة الذين بنوا التراث الفقهي العظيم للإمامية، بل يمكن القول إن هذه المحاولات تخالف ما فهمه المتقدمون وعملوا به، وهذا مما يؤثر كثيرا على تعاملنا مع هذا التراث وتقييم ما ورد فيه من آراء ونظريات توصف أحيانا بالشهرة أو حتى الاجماع. ربما حان الوقت للمنشغلين بالفقه الجعفري أن يتعاطوا بمرونة أكبر مع تراثهم الفقهي الكبير، وتحويل مسألة التعارض والاختلاف التي كانت مصدر قلق معرفي كبير لدى المتقدمين إلى عنصر ثراء ومرونة وتنوع في الاستجابة إلى متطلبات تعديل القوانين في العراق، ومنها قانون الأحوال الشخصية، وبالتالي العمل على اختيار أفضل ما في هذا التراث مما يلائم المصلحة الزمنية، وليس العكس كما يفعل البعض اليوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

تعديل قانون الأحوال الشخصية دعوة لمغادرة الهوية الوطنية

ضجة التّماثيل.. كَوديا بعد المنصور!

العمودالثامن: نائب ونائم !!

لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ (إصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة)

العمودالثامن: إضحك مع الدولة العميقة

العمودالثامن: الكهوف المظلمة

 علي حسين درس العلامة جواد علي أخبار وأحداث ابن الأثير وحفظها واطّلع على معظم ما كتب عنها وكل ذلك في إعجاب شديد وحب صادق، وكان جواد علي ابن الكاظمية يعرف أن الموصلي "...
علي حسين

بيانات جديدة عن حالة الأمن الغذائي في الشرق الأوسط: ثلاثة بلدان في المنطقة تعاني من المجاعة بينها العراق

د. فالح الحمـراني أظهرت منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة معدلات عالية بارتفاع نسب المجاعة وسوء التغذية، فضلا عن أعراض مثيرة للقلق للغاية تتعلق بزيادة نسبة السكان الذين يعانون من السمنة. ويرجع هذا الاتجاه...
د. فالح الحمراني

نظرة في الميدان السياسي العراقي.. إلى أين يفضي؟

عصام الياسري أسفرت انتخابات مجالس المحافظات العراقية في ديسمبر كانون الأول 2023، عن مكاسب كبيرة للأحزاب الطائفية الماسكة منذ العام 2003 بالسلطة. وبضعة انتصارات طفيفة فقط للقوائم المناهضة للمؤسسة ولم تفز الأحزاب السياسية المعارضة...
عصام الياسري

التعديل والأهلية.. جدل الفقه الجعفري مع قانون الأحوال الشخصية في العراق

علي المدن مرة أخرى تفشل مساعي تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق بعد أن سبقتها محاولة أولى عام 2017 تقدم بها النائب حامد الخضري. وكما أعلنت تحفظي في المرة الأولى، وكتبت مقالين نشرتها في...
علي المدن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram