طالب عبد العزيز
تنهدم البلدان بتخليها عن تقاليد شعوبها، وقد أثبتت التجارب في المجتمعات العريقة المحتفظة بتقاليدها أنَّ ذلك هو الصواب. ولسنا في وارد الحديث عن التقاليد، أيِّ تقاليد إنما ما هو حياتيٌّ، ونبيلٌ، ومنسجم، مع قيم التمدن والتحضر والرقيّ. ولعلنا في ما قامت به جامعة فنتوري(Coventry University) البريطانية بمنح الفنان العراقي الكبير ضياء العزاوي شهادة الدكتوراه الفخرية خير برهان على محافظتها لتقاليدها تلك، على خلاف ما يتهدم في وجداننا ومؤسساتنا التعليمية والثقافية والمجتمعية بعامة.
وهنا، نكبر في وزارة الثقافة العراقية إشارتها الى ذلك التكريم، على صفحتها الرسمية، ففي هذا بناء وترميم لما يتصدع في حياتنا للأسف، وفي ثقافتنا، لا المكتوبة حسب، إنما في جملة العلاقات بين جموع المثقفين، هذا الصراع شبه اليومي، الذي نقرأه ونسمعه هو هدم في التقاليد التي كانت عليها الثقافة العراقية. ما شاهدناه في حفل تكريم الفنان العزاوي شيءٌ كبير، فالجامعة اغتنمت مناسبة حفل تخرج طلاب أكاديمية الفنون الجميلة عنها، وبحضور رئيسها وأساتذتها وقامت بمنح العزاوي الشهادة الرفيعة تلك، في مشهد يحيلنا الى ما شاهدناه في الكرنفالات الملكية والاحتفالات الرسمية من خطابات وكلمات ووقائع وأفعال، وبما يمنح اللحظات تلك رهبتها وهيبتها وأهميتها أيضاً.
ما يحدث في جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية من تردٍّ وتخلفٍ أمرٌ يدمي القلب، فقد اختفت القيم العليا التي بنيت عليها الجامعات العراقية، والتي كانت مثار اعجاب الطلبة العرب والعالم، لعقود طويلة، لما كانت عليه من رصانة ومنعة وعظمة، إذا ما علمنا بأنَّ المؤسسات التعليمة العليا بل والتعليم بعامته في العراق هو سليل التقاليد الإنجليزية العريقة، والمناهج التي تدرس فيها إنما هي تحاكي التجربة البريطانية في التربية والتعليم، وأنه استمد أهميته من الارتباط ذاك، لكنَّ مؤسساتنا تخلت في العقود الأخيرة عن الكثير من التقاليد تلك، بل وباتت تعتمد الارتجال والتخبط والتجريب، بما أفقدها صورتها التي كانت عليها ذات يوم. يتحدث العقلاء، خارج وداخل الجامعة قائلين: بأنَّ وجود المسجد والحسينية وموكب العزاء في الجامعات العراقية لن يزيد من عدد الطلبة المتفوقين فيها.
منْ لم يسمع من أشقائه العرب وهم يكبرون ويعظّمون في أحاديثهم التعليم والثقافة والفن في العراق يزهد به بكل تأكيد، ولا يجد فيه الأهلية والأهمية التي هو عليها. إذا كانت صورة السياب والجواهري والبياتي وسعدي يوسف ماثلة شعرياً في الذهن العربي فأنَّ التشكيل العراقي العلامة الفارقة في الفن العربي بعامة، لذلك، لم تقم الجامعة البريطانية بتكريم العزاوي بفعل مرتجلٍ، أو بناء على توصية من أحدٍ، وليس في القضية محاباة وقربى، أبداً، هناك فعل فني كبير، وأسم لمع في سماء المملكة المتحدة والعالم، تم تأشيره ورصده من قبل الجامعة والأكاديمية الفنية فيها. أعمال العزاوي تزيّن أروقة متاحف ومطارات وقاعات كثيرة في العالم، وهو اِسمٌ ونقشٌ باهر في الفن العالمي، تفرّد بمنجزات إبداعية لأكثر من خمسة عقود، كان طابعها الحداثة بمزاوجة الشكل واللون، بالاعتماد على النمط ثلاثي الابعاد، والجمع بين الرسم والحفر على البرونز، فضلاً الثراء الذي نجده في التصميم والكتب ودواوين الشعر والمجلات وغيرها.
تكتب الجامعة في ديباجة خطابها فتقول: "ضياء العزاوي هو أحد أكثر الفنانين العرب المعاصرين تأثيراً، ورائداً في الفن العربي الحديث، وهو رسّام ونحات عراقي دولي، اشتهر بلوحاته الضخمة الملوّنة، نحن فخورون للغاية بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية في الفنون اليوم تقديراً لعمله". معلوم بأنَّ العزاوي تولد سنة 1939 بمحلّة البارودية، إحدى محلات بغداد القديمة، لعائلة بغدادية عريقة، وحصل على دبلوم الفنون الجميلة عام 1964 أسس مع رافع الناصري وإسماعيل فتاح الترك ومحمد مهر الدين لجماعة الرؤية الجديدة.غادر العراق، منذ عقود أربعة، مستقراً في ضاحية قريبة من العاصمة البريطانية، لندن.