د. نادية هناوي
تتعدد دلالات مفهوم الشعبي والشعبية لكنها تتلاقى في أنها تمت بصلات وثيقة إلى كل ما هو جماهيري وذو بعد عام وفلكلوري، ليست فيه أية نخبوية أو تخصصية في أبعاده الاجتماعية والفنية. وعادة ما تندرج دراسة الشعبي في خانة علم الاجتماع وضمن فرع من فروعه هو علم اجتماع وسائل الاتصال الجماهيرية والفئات البشرية. ومهمة هذا العلم دراسة الفئات المهمشة في المجتمع، والنظر إليها بوصفها رأسمالاً رمزياً له وزنه النوعي والكمي في الاستراتيجيات الدولية والسياسات المجتمعية. والسبب هو قدرة هذه الفئات على تجاوز صورتها من مجرد كونها جمهورا استهلاكيا تابعا إلى أن تكون قطاعاً منتجاً يقاوم ما يمارسه النظام المركزي من عمليات التذويب والإقصاء بحق الأطراف والهوامش.
ولأن المركز شاقولي هرمي والهامش أفقي مستوٍ، يغدو للأخير تأثير كبير في زعزعة الأول وهو ما يجعل الهرم قلقاً ومتوجساً دوماً من الهامش. وكلما تمكن الهرم من تحجيم فعل القاعدة المستوية، ضمن لنفسه الثبات والفوقية مطمئناً إلى الهامش أن يظل قابعاً في عتمة القاع التحتي. وإذا ما تمردت القاعدة على الهرم، فعندها سيفقد المركز سطوته وسيتمكن الهامش من إعلان وجوده بكل ما فيه من قوى وفئات ومراتب، تذوب معها تصنيفات المركز اللغوية وتبايناته الطبقية والهوياتية. وقد يتمكن الهامش من النمو أفقياً وشاقولياً وعندها سيتصاعد تدريجياً ويتحول بمرور الزمن إلى كيان شبه مركزي أو ربما مركزي، تاركاً محله ليشغله هامش آخر قد يزعزع شاقولية المركز يوماً ما. وهكذا دواليك تستمر حركة المجتمع البشري بطريقة جدلية ديالكتيكية تتباين فيها الوسائل لكن الأغراض واحدة وهي الهرمية الفوقية التي مطلبها الارتكاز على قاعدة ثابتة، ليس فيها تخلخل أو تضعضع.
ومن أول الكتب التي اهتمت بالشعبية والهامشية واخضعتها للفحص النظري في الفكر الحديث كتاب(الثقافة والفوضى culture and anarchy) لماثيو ارنولد وصدر لأول مرة عام 1899 وبه تأثر الناقد ف. ر. ليفز فدرس الوعي الجماهيري ودور الغوغاء في إفساده.
ومعلوم أن الفلسفة الماركسية في اهتمامها بالبنية الفوقية والقاعدة التحتية كانت قد وضعت الأساس المبدئي لهذا النوع من الدراسات الثقافية، إذ كيفما يكن محتوى القاعدة الشعبية، يكن شكل البنيان الفوقي الثقافي. ولقد توسّع الاهتمام البحثي بالدراسات الشعبية بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت تسود نزعة ما بعد تخصصية Post Disciplinary في الدراسات الثقافية البريطانية وأعمال مفكرين فرنسيين أمثال بيير بورديو صاحب مقولة الهابيتوس ودي سيرتو الذي اهتم بدراسة الاستهلاك والانتاج والمسافة الجمالية بينهما كما ظهرت مع الموجة المكارثية في الولايات المتحدة دراسات اهتمت بالكشف عن دور السلطة في وضع النزعة الثقافية في علاقات معقدة وغالبا ما تكون متناقضة ومتصارعة مع المذهب البنيوي الفرنسي الذي جلب بدوره حوار التهجين والادماج لاسيما بعد التطورات في الفكر الماركسي الغربي وبخاصة أفكار انتونيو غرامشي، وفيما بعد، لويس التوسير.
وتظل صلة الثقافة الشعبية بالأيديولوجية مهمة ومعقدة، بوصف الشعبية(مجموعة من الافكار التي تعبر عن مجموعة من الأشخاص.. وهي تقدم ما يدعى بالضمير الزائف) كما يقول ماثيو ارنولد. وليس هذا الضمير سوى نتيجة طبيعية للعلاقة المتضادة بين ايديولوجيا السلطة بوصفها هي الزيف وضمير الشعب بوصفه هو النقاء.
وواحدة من المسائل التي تمنح الشعبي قوة كامنة لا تظهر إلا بوجود محفزات الهامش التحتي، هو تنوعه الثقافي. ويمكن أن تصنعه مجموعة موارد إبداعية، تنطوي ابتكاراتها على منتجات ثقافية عامة. غير ان هذا التنوع سيتصف بمرور الزمن بصفتين: رسمية يمثلها الهرم السلطوي وخواصه النخبوية، وشعبي يمثل القاعدة المكونة من العوام.
وعلى الرغم مما في هذه القاعدة من الغوغائية واللا نظامية، فإنه أيضا يدخر أدباً يتسم بأنه عامي وشفاهي، وفيه كثير من الوقائع المخبوءة والطاقات المكبوتة والأسرار المحتجبة وبطقوس غريبة وفعاليات متنوعة. ومتى ما سمح المركز للهامش أن يظهر إلى السطح، كان بالإمكان استثمار هذا المدخر الثقافي وإنعاشه وإظهاره بلا قيود ولا تحفظات. وفي الغالب لا يكون من سبيل لأن يظهر الهامش كوامن ثقافته وما لديه من مدخرات نوعية إلا إذا تلاشت سلطة المركز وفقدت نظاميتها وزالت هرميتها أمام ما يصنعه الهامش من تقاليد، بها يفرض وجوده على المركز ومن التقاليد ما هو أدبي، يستمد جزءا كبيرا من مكوناته من التراث الشفاهي الذي مصدره الهامش التحتي. ولأن المجتمعات في كل زمان ومكان تنقسم إلى: فوقي رفيع وتحتي وضيع، صار أمر التقاليد مهما لأن به تؤكد السلطة وجودها وفي الان نفسه تضيِّق الخناق على هوامش الجزء التحتي وتوثق هيمنتها على الجزء الفوقي، ممركزة سياساتها بوصفها هي صاحبة الارث الشعبي والصانعة للتقاليد والساعية الى اتباعها وتعميم الانتماء إليها.
وليست التقاليد قيودا بالمعنى الواقعي إنما هي أسس تترسخ عبر الزمن وما على المبدعين سوى الانصياع لها وإتباعها كحصيلة تراكم ثقافي لا مجال لتجاوزه إلا بما هو أصيل ومتراكم أيضا. وهو ما لا يحصل في الجيل أو الجيلين وربما الثلاثة إلا مرة واحدة. وفي هذه الحالة سيضاف إلى التقاليد ما هو جديد أيضا، ليترسخ هو الآخر بمرور الزمن.
ولقد ساعد توطد هذه التقاليد الادبية في القرن الثالث للهجرة على تأسيس منظومة ثقافية كاملة، لها مؤسسوها من الشعراء والكتّاب. وظلت هذه المنظومة قائمة حتى في أحلك الظروف وأشد الاضطرابات. ولم يكن من مجال لإضافة تقليد جديد إلى تلك التقاليد الأدبية الراسخة إلا إذا طرأ على رسوخها الثقافي بعض الضعف بتأثير الجديد الذي باستمرار العمل عليه، يتوطد ويصير من ثم تقليداً. ومن أمثلة ما تقدم التجديد الذي طرأ على القصيدة بتأثير أبي تمام الذي ثار على عمود الشعر برمته ليكون على رأس مدرسة الصنعة، وكذلك ما رسخه أبو العلاء المعري من تقاليد فكرية في رسالة الغفران.
ومن مجموع هذه الجهود التجديدية في الأدب تشكلت تقاليدنا الأدبية وتوطدت شاملة ومعممة على مختلف الفنون والأنواع. وهي وإن كانت مستمدة من محضن شعبي؛ شفاهي وتحتي غير أنها اندرجت في حاضن رسمي نخبوي متعال، يمثل وجهة نظر السلطات ويماشي توجهاتها ويوالي أقطابها الذين بهم يحوز الأديب على المشروعية وينال الدعم والمقبولية ومن خلال هذا الواقع تكون للسلطة السياسية وصاية أبوية واضحة على الأدب برمته وعلى الهامش التحتي بكل ثقله.
ولقد جعلت هذه الموالاة للسلطة من أدبنا العربي أدبا نخبويا يتلفع بعباءة المؤسسة السياسية ويلوذ في كنفها، لتكون هي عرّابته التي منها مبتدأه وإليها منتهاه، فهي الموجهة والمرشدة بقصورها العالية وشرفاتها الأنيقة التي تهب من ينتمي إليها منافع، ينالها أصحاب المواهب المتكسبين والبعيدين عن أي تطلع حالم بواقع أفضل. وهكذا كان للمؤسسة الثقافية الرسمية شعراؤها الكبار من ذوي الرياسة المداحين وصار لها ندماؤها الذين بأدبهم الساخر يتقربون من السلاطين ضامنين بامتلاكهم حرفة الأدب مكانة رفيعة عندهم.
وإذا كانت قوة الثقافة الرسمية ناجمة من علو شأن النظام السياسي الذي يحتضنها، وبه تقدر على التأثير في الأدب وهي وحدها التي تمده بأسباب البقاء وتمنحه الشرعية، فإن تلك الثقافة الأخرى القابعة في الهامش التحتي، ما تزال لها قاعدة جماهيرية كبيرة. وهي وإن كانت تعمل في الظل وليس لأدبها الشرعية كما لا مؤلفين معروفين لها، غير أنها تبقى منتجة للتقاليد الأدبية بلا تصنع ولا استقطابات. وبهذا الانتاج تتمكن الثقافة الشعبية التي تمثل البنية التحتية للمجتمع، أن تخرج من العتمة وتغادر القاع، لتنافس من ثم الثقافة الرسمية القوية والمركزية. وقد توجهها وجهة تتلاءم مع مبتغياتها وتطلعاتها. بعبارة أخرى، لا مجال لأن تخرج الثقافة الشعبية بأدبها وفكرها من الظل إلى النور وتنافس المركز إلا إذا تمكنت من أن تفيد من انتمى للثقافة الرسمية ليقوم هو بتسريب ما في الثقافة الشعبية من إبداع أصيل الى المركز الذي ستجذبه هذه الاصالة بقوة محمولاتها وجدة أساليبها وغنى مصادرها. ومن خلال هذا التسريب تتركز التقاليد وتترسخ بالتدريج، فتكون جزءا من الثقافة الرسمية.
الهامش صانعًا تقاليد الأدب
نشر في: 4 أغسطس, 2024: 12:03 ص