لطفية الدليمي
ما يحصلُ بين الحزبين العتيديْن في الولايات المتحدة مع اقتراب الانتخابات الامريكية 2024 أمرٌ أبعد من فنتازيا جامحة. هل كنّا نتوقّعُ قبل عقدين مثلاً أن يخاطب رئيسٌ أمريكي رئيساً امريكياً سابقاً فيقول له:سلوكك أقرب لسلوك قطط الشوارع؟ ربما يظنُّ بعضنا أنّ هذه الكلمات قيلت على لسان (بايدن) المعتل استكمالاً لسلسلة شطحاته التي لن تنتهي؛ لكنّ الواضح أنّ هناك من لقّنه اياها عن سابق تصميم وتدبّر وحساب. بالطبع لم يتأخر (ترامب) المعروف بوقاحته التي يتباهى بها في الرد بمكاييل أقسى على بايدن؟ هل كان يمكن أن يجري مثل هذا الكلام على لسان كارتر أو ريغان او بوش الاب أو كلينتون؟ أما لو ذهبنا بعيداً أيام تعليقات ايزنهاور أو مناظرة كينيدي- نيكسون الرئاسية فتلك حكايات أخرى. نحن إزاء رؤساء يستحقون التفكّر الدقيق في كلامهم حتى لو اختلفنا معهم في التوجهات السياسية والمنازع الفكرية والبواعث الانسانية. اليوم عندما يذكر الحزب الجمهوري سيذكرُ معه الاصولية المسيحية الانجيلية والسياسات الاقتصادية المغالية في النيوليبرالية؛ أما لو ذكر الحزب الديمقراطي فسيقترن ذكره بالسياسات الجندرية الجديدة ومحاولة استقطاب السود والمهاجرين والهروب من البؤر الملتهبة في العالم. أظنُّ أنّ كثرة من الأمريكيين باتوا ضجرين من هذه الخارطة الانتخابية المملة الواقعة بين قطبين حزبيين متنافرين. يتساءلون ونحن معهم: ألم يحن الوقت لإستبدال شكل الممارسة السياسية القائمة على الفعالية التحزبية؟ أما مِنْ سبيل للتفكير ببدائل ممكنة؟ الوضع في الدول الاوربية أهون من نظيره الامريكي؛ لكنّ مساءلة الفكرة الحزبية قائمة وبخاصة عقب هذا الاستقطاب العدواني بين أحزاب اليمين واليسار.
لايمكننا نكرانُ أنّ فكرة الاحزاب نمت مع تطور فكرة الدولة القومية في أوروبا والتي أصبحت لاحقاً النموذج العالمي تقريباً لصيغة ممارسة الحكم. هذا بالطبع في الدول الديمقراطية التي ترتكن لصناديق الانتخابات؛ لكنّ هذه الفكرة (فكرة صناديق الانتخابات) باتت عرضة لإطلاق نار كثيف عليها؛ إذ راح كثيرون يرونها فكرة متقادمة تحصر نتيجة الفوز بمفاعيل رأس المال. بعبارة أخرى صارت المعادلة أنّ من يملك المال سيملك صندوق الانتخابات. هذه الفكرة روّج لها أستاذ علوم سياسية أوربي. لا أعلم كيف سيكون بديل الانتخابات والاحزاب المتنافسة؛ لكن ربما ستشهد فكرة الاحزاب نهايتها عقب بضعة عقود من اليوم.
الاحزاب لدينا في العراق لها مثالب إضافية أبعد من مثالب الاحزاب الغربية. سأذكر من هذه المثالب ثلاثاً:
الاولى: انغماس الاحزاب العراقية في الايديولوجيا ودفع الاقتصاد والسياسات العالمية إلى مؤخرة الاهتمامات لأنّ هذه الاحزاب نشأت بدافع قومي يصل تخوم الرومانسية الشوفينية، أو بدافع عالمي كنتيجة تتصادى مع ثنائية الصراع الاستقطابي (رأسمالية/ شيوعية)، أو بدافع ديني يتغنى بالمرويات التراثية الفقهية وحكايات السلف الصالح. يتشارك الثلاثة في خاصية العبور المكاني وتجاوز محددات ومصالح الدولة الوطنية.
الثانية: جاءت بعض الاحزاب العراقية امتداداً طبيعياً للسلوك العشائري و/أو المذهبي. ثمة تفاصيل ووقائع كثيرة تعزز هذه الحقيقة وإن تفاوتت مناسيبها بين الاحزاب. من الواضح أنّ الفكر العشائري والمذهبي يتقاطع مع فكرة الدولة المدنية الحديثة.
الثالثة: عملت الاحزاب العراقية الرئيسية وفقاً لمعادلة صفرية قادت إلى تناحر دموي نتج عنه آلاف الضحايا. كان من بعض نتائج هذه المعادلة الصفرية أن إقترن العمل الحزبي بمفاهيم دينية الطابع (التضحية الراديكالية بالنفس والقريبة من القرابين البشرية في التاريخ البشري). تبعاً لهذا فقدت الممارسة الحزبية سمتها المدنية المسالمة وصارت أغلب الاحايين مقترنة بالتخفي والمطاردات و رائحة الموت؛ الامر الذي جعل أغلب الحزبيين يفتقدون العيش الانساني الطبيعي ويصبحون كائنات مأزومة خاسرة تنطوي على بذور العنف.
لستُ أسعى هنا لشيء سوى توصيف العمل الحزبي والمتغيرات التي لا بدّ أن تحصل فيه مع تطوّر الفكر البشري والممارسة السياسية. من المهم هنا أن لا ننسى دور التقنيات الجديدة وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي وما سيجلبه من متغيرات على أصعدة العمل والعيش البشري والتغيرات الهيكلية التي ستحصل لا محالة للأدمغة البشرية مع تطورات الذكاء الاصطناعي والنظم الخبيرة.
ربما سنشهد حزباً للذكاء الاصطناعي، وآخر للهندسة الوراثية بعد بضع سنوات. العلم والتقنية باتا يحتلان المواضع التي تُخْليها الآيديولوجيا. هذه حقيقة ليس من العقلانية التهرّبُ من مفاعيلها بسبب نوستالجيا الاحزاب التي عرفناها من قبلُ ولم تزل ذكراها الآفلة تداعبُ مخيلة بعضنا عندما تدلهمُّ صورة الحاضر وتتشوّشُ المفاهيم والسلوكيات أمام ناظريه في معيشه اليومي.