علي النجارمالمو يتناول احد الأفلام الدانمركية قصة رسام قضى معظم حياته في باريس, لكنه في زيارة أخيرة له لمدينته أو قريته الصغيرة في فصل الصيف, ولما رآه من احتضان له من قبل أصدقائه ومعارفه,من حفاوة وإمتاع, قرر البقاء في هذه القرية ليقضي موسم الشتاء فيها.
وما أن بدأ زحف البرد وانهمار الثلوج وتقطع سبل المواصلات ما بينه وبين خلانه وسط ظلمة ووحشة الغابة, حتى بدأ السأم ينخر روحه ولم تفده الكحول في طرد شبح هذه الوحشة وهو الذي عرف بأنه ملون بارع ومغرم بالضوء لحد الهوس. بعد مكابدات لم يجد أمامه إلا أن يغرق نفسه في البحر أو البحيرة, هكذا نزل ببطء في المياه إلى أن غمرته ومات غرقا بعد أن استنفد كل هواء رئتيه صراخا. لقد غلبه المزاج الاسكندينافي واستل منه جذوة حياته. وان كانت الشعوب الاسكندينافية من أسرع شعوب الأرض عطبا أمام جبروت بيئتها القاسية، فقد كان للفنان العراقي غسان غائب رأي مغاير في ذلك. (المطرود من الجنة) هو عنوان معرضه الأخير الذي أقامه في قاعة كريم في عمان. والجنة بالنسبة للفنان هي الشمال الاسكندينافي حيث مكث فيه(في قرية يورن(*) عاما كاملا في محاولة منه للهجرة لهذا البلد. وبيئة قرية يورن هي بالتأكيد اقسى من بيئة الدانمرك لأنها اقرب لشمال الكرة الأرضية منها. لكن غسان ومن خلال إقامته القصيرة زمنيا في هذا المكان من العالم, لم يكن يرغب إلا في تحقيق الأمان لنفسه أولا, وان يكتشف الطبيعة البكر كما مغامري صعود الجبال, والطبيعة التي اكتشفها لا تختلف عن ذلك. لقد وجد نفسه مغمورا بالضياء وحتى في عتمة الليل. حيث ألا زمن ما بين أشعة شمس شظتها بلورات الثلج, وقوس قزح الجليد الذي مسه شعاع ميلانها ليلا. وهو ابن بغداد حيث لكل فصل من فصول ألسنة طقوسه المناخية الحادة. وجد نفسه ينزلق ضمن منزلق شتاء صقيعي طويل وجنة ربيعية قصيرة ولا اثر لبقية عثرات الفصول الأخرى. هو الرسام الذي نذر نفسه لأقصى حالات الرسم التجريدي أباح له الشمال السويدي أسرار تجريدياته الفائقة.هل رسم غسان بيئة(يورن) كما يرسمها الفنان السويدي الذي يقطنها. أم عالجها كحقل تجريبي جديد وكجنة(إقامة) جديدة, أم طقوس جنان لونية. أم لمجرد استذكارات لزمن معيش لا يرغب في فقد أثره. بالتأكيد لم يرسمها كما الفنان السويدي الذي هو مولع بتفاصيل بيئته لحد الهوس. فرغم تغزل الشعب السويدي الدائم بأشعة الشمس. إلا إن هذا الغزل يبقى متجذرا كحلم في الذاكرة الجمعية. لكن براعتهم في تصوير مسارات انهمارات الثلوج لا يضاهيها احد. فما بين الحلم وهو فنتازيا والواقع الضاغط بإثقاله فروقات فيزياوية لا يمكن للعين المبصرة من إغفالها. وغسان هو الأخر لا يستطيع العبور على كل تواريخ إنشاءات رسوماته و خزينه اللوني. لذلك لم تكن هذه الرسوم الجديدة ببعيدة عن ذلك, فهو لا يريد الانفصال عن تاريخ منجزه التشكيلي بقدر ما يسعى لاغنائه بعناصر جديدة. لقد سجل وقع دهشته في هذه الرسوم لا مشهديتها الطبيعية. مع ذلك فالدهشة لم تأت ِ من فراغ, بل من إبصار تعدى الدهشة بحثا عن مخبوءاتها. رسوم غسان وعبر مسيرته الفنية كلها وحسب معرفتي لها ومنذ خطواته الأولى لحوالي ثلاثة عقود لم تشذ عن صرامة القواعد التي فرضها الفنان على مشهديتها. لقد اغرم بمنطق الأداء التجريدي المقيد بمسارات كتل لونية تتداعى حوافها الهندسية أو لتتداخل أحيانا أخرى و تفسح لفرجة من الفراغ بعض الأحيان. لقد لعب على انشائياته أو عماراته الصلدة بصلادة لونية تدرجت من عتمة مطلقة إلى عتمة اخف ثم ليدخل اللون في حوار الظل والنور و ظل زمنا طويلا يشيد عماراته هذه ثم ليخرقها في زمن احدث بمحاولات مفاهيمية أملتها عليه الظروف غير السوية التي مر بها العراق والتي اخترقته كما اخترقتنا. وليدخل حقل تجارب إنشائية وتجميعية لم تكن في معظمها ببعيد عن نمطية رسوماته بقد ما كان يجسد من خلالها الأبعاد المكانية التي كانت مخبوءة خلف طبقات صبغتها. لكن يا ترى ماذا فعلت سهوب الجليد السويدية بمسار أداء أعماله الجديدة(الجنة المطرود منها). فهل صنع من خلالها جنة افتراضية, أم فقدها للأبد. الفنان الشمالي يبحث في فضاءات الجليد من خلال شبحية ملونته المضيئة وموشورها الهارموني الخامد, انه يبحث عن الصفاء في السكون. غسان على النقيض من ذلك, هو يبحث عن المخلوقات الكونية التي انزرعت وسط هذه السهوب، عن ديناميكية الخلق الظاهرة والمختبئة خلل الضباب, آو القابضة بعتمة جذر وساق كائن الغابة الأزلي. انه يلتقط الانعكاسات المتشضية خلل أجساد الأشجار المعفرة بظلمة الرطوبة. لقد استيقظ حسه اللوني الدرامي في أعلى درجاته, لكنه في هذه الأعمال بدا أكثر رقة وأندى إحساسا. ووسط مساحات رسومه الكبيرة انهمرت طاقة الضوء التي كانت مخبوءة في ذهنه حتى تصادمها وطقوس بيئة هي منبعه ومصدر إشعاعه. كانت تذكرني رسوماته السابقة(رغم انه لم يبتعد عن حصيلتها الأسلوبية) بنمطية معمارية لا تخلو من إشارات كاليغرافية. لكنها أخيرا فسحت للملونة الوجدانية لاختراقها تذكارات لا نخطافات موشور الضوء الشمالي حيث تدنو السماء من الأرض
الشرق في ترحاله شمالاً..غسان غائب وجنته المطرود منها
نشر في: 28 ديسمبر, 2010: 05:29 م