صبيح الحافظجاء عيد الميلاد المجيد مصادفاً لأربعينية شهدائنا من أخواننا المسيحيين في كنيسة (سيدة النجاة) هي رحمة من الله لتخفيف آلام وأحزان أسرهم بما أصابهم من مكروه ، ولكي يشعروا بشيء من الفرح والسرور ولينسيهم تلك المصيبة .في هذه المناسبة نحن نهنئهم بعيد ميلاد السيد المسيح متضامنين معهم ونشاركهم في أفراحهم هذه الأيام ، سائلين المولى عز وجل أن يجعل كل أيامهم المقبلة سعيدة.
يقول ليوناردو دافنشي : (( السرور والألم توأمان ، ملتصقان ظهراً الى ظهر ، بحيث لا يفترق أحدهما عن الآخر ، ولكنهما على النقيض مختلفان كل الاختلاف)).ويقول أيضاً: (( كلما زادت المآسي على الإنسان زادت حاجته الى الصبر والى التمسك به حتى لايترك للاستسلام والاستكانه سبيلاً للتأثير على العقل وسلامة التفكير فيسد الطريق على معالجة الأحزان. وبمناسبة أعياد الميلاد المجيد أنقل في موضوعنا هذا تحليلاً للوحة العشاء الأخير للفنان دافنشي.تعتبر صورة العشاء الأخير من أهم أعمال ليوناردو التي أنجزها بمدينة ميلانو وهي الصورة التي زين بها حائط دير (سانتا ديلا جراتزيا) للرهبان الدومينكانيين بتكليف من الدوق (لوردفيكو) المراكشي حيث أصدر أمره الى ليوناردو لينجز العمل في صالة مطعم جراتسيا وكذلك الاهتمام بأمر الحائط الآخر بالصالة.لقد اشتغل ليوناردو بالصورة ما بين 1495-1498 أي لمدة ثلاث سنوات، وتعد هذه واحدة من أشهر أعماله في العالم وأكثرها ذيوعاً وتداولاً عن طريق النسخ عنها بالطباعة أو بالرسم والحفر أو بالعبارات المكتوبه ، وقد صورها ليوناردو على حائط المطعم في الدير بألوان الزيت بطريقة جديدة من استنباطه.في الشكل العام للصورة إثنا عشر حوارياً يجلسون في سكون الى جانب المائدة، وينفرد كل منهم بجلسته على حدة ، بينما يشترك البعض الأخير في الشراب ، وعلى الجانب القريب يجلس (يهوذا) بمفرده وحيداً وقد بنى ليوناردو عمله في الصورة على مراعاة تكامل الوحدة والتمثيل المسرحي من حيث أنهما عصران مهمان يبرزان في التعبير عن مثل هذا الموضع، الأمر الذي جعل الفارق واضحاً بين الماضي قبل عصر النهضة والتعبير الذي ارتاه وابتدعه ليوناردو.فتكوين الصورة ليس فيه ما يشغل العين عن الموضوع الأصلي، وفي ذلك يقول ليونادرو :في الصورة التاريخية لا تدخل أبدا الزخارف على الخطوط الرئيسية التي يتكون منها موضوع الصورة وألا فستعجل الخلفيات والأركان تطغى على الضرورية للشخصيات التى يجب أن تمثل في الصورة مواضيع الاهتمام، ولذلك نراه مثلاً يستعيض عن التراكيب الزخرفية المعمارية التي كانت تزدحم بها العصور السابقة بخلفية مجردة من كل عناصر الزخرفة ،ولم يكتف بذلك بل جعلها خلفية جافة بعض الشيء.وهكذا كانت الأوضاع التي اختارها ليوناردو لصورة العشاء الأخير تتمشى مع تعاليمه التي حددها للصورة التاريخية وما يجب أن يكون عليها تكوينها وإخراجها.وقد كتب المؤرخ (فساري ) عن الصورة بقولة أن ليوناردو أضاف على رؤوس الحواريين العظمة والجمال وترك رأس السيد المسيح من دون استعمال وذلك لشعوره بعدم إمكانه إعطاء الرأس حقه من التبجيل والتقديس اللازمين .إن رئيس الرهبان في الدير قد دأب على حث ليوناردو للإسراع في استكمال الصورة منوهاً بأنه أمر غريب ان يقضي الفنان نصف يومه في كل مرة للتفكير،ما دعاه الى رفع الامر الى الدوق شاكياً من مماطلة ليوناردو في العمل ما جعل الدوق يستدعي ليوناردو ليسأله عما تم في الصورة ،وفي عبارة رقيقة أفهم ليوناردو انه يعمل ذلك بسبب إلحاح رئيس الرهبان في شكواه.ولمّا كان ليوناردو يعلم ما لهذا الأمير الدوق من صرامة أحيانا واعتدال أحيانا أخرى ، فقد رأى أن يتحدث الى الدوق في شيء من التفصيل بشأن الصورة (وهو أمر لم يفعله قط مع رئيس الرهبان ) فتحدث مع الأمير في حرية عن الفنون شارحاً كيف (تعمل العبقريات قليلا وتفكر كثيرا تبحث في عقولها عن ابتكار واختراع وتجديد.وبعد تكوين تلك الأفكار والآراء والبحوث الكاملة تعبر بأيديها عن كل ما حصلت عليه وأدركته عقولها ) ثم أضاف:إنه لا يزال أمامه لإنجاز الصورة رأسان يجب عليه تصويرهما: رأس السيد المسيح الذي لا يريد أن يبحث عن أنموذج له فوق الأرض ولكنه سوف يستطيع بالتخيل إدراك ذلك اللطف السماوي والجمال الإلهي والقدسية المتجسدة.أما الرأس الثاني فهو رأس (يهوذا) وقد أجهده التفكير في العثور على إنموذج له ولا يمكنه أن يتصور إنساناً بعد ان ناله الكثير من الخير ثم تطاوعه نفسه الدنيئة لان يمس بالسوء حياة سيدة رسول رب العالمين.واختتم ليوناردو حديثه قائلاً : على إنني أصبحت والحالة كما شرحت لسيدي الدوق راغباً أن ألاّ أطيل البحث عن أنموذج لهذا الغادر اللئيم فسوف لا أجد أليق من رأس رئيس الرهبان عديم الذوق كأنموذج لرأس (يهوذا).وقد سر الدوق هذا الحديث وأعجب به وقال : لليوناردو: إنك على صواب وخجل رئيس الرهبان عندما سمع ذلك وعكف على عمله في الحديقة ، ولم يعد ليزعج ليوناردو .وهكذا أتمّ ليوناردو الصورة في هدوء مكّنه أن يصل الى بغيته في تمثيل صورة (يهوذا) التي جاءت وكأنها تعبير كامل حيّ عن الخيانة واللؤم وانعدام الإنسانية.
السرور والألـم
نشر في: 28 ديسمبر, 2010: 05:31 م