حارث حسن
واجهت معظم الدول الإسلامية الحديثة إشكالية التناقض بين مبادئ وأحكام الفقه الإسلامي (الذي يستخدم خطأً باعتباره مطابق للشريعة)، وبين المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة. يتعلق الأمر بمسألة شرعية هذه الدولة، والتي تقوم على افتراض انها تمثل جماعة المواطنين (لا جماعة المؤمنين)، الأمّة بحدودها الجغرافية لا الأمّة بحدوجها العقائدية، وان هذه الدولة مسؤولة – نظرياً في الأقل- عن حماية الخير العام وتمثيله عبر قوانينها ولوائحها. في معظم تلك الدول جرى تكييف الفقه الإسلامي لينسجم مع حقيقة وجود الدولة الحديثة، حتى في ايران الإسلامية نفسها (جادل اوليفر روا في احدى مقالاته بأنّ الجمهورية الإسلامية نفّذت نوعاً من العلمنة من خلال سيطرتها على المجال الديني وتأكيد السلطة العليا للدولة داخلياً). لذلك من اللافت انه بدلاً من أن تعبر النزعة المحافظة لنواب "الإطار التنسيقي" عن نفسها اليوم، كما يحدث في بلدان أخرى لديها تيارات إسلامية قوية، بمحاولة تعديل بعض بنود القانون في سياق شرعية الدولة، فان ما يفعله التعديل المقترح في البرلمان هو الطعن بشرعية الدولة وحقها في تنظيم شؤون مواطنيها، بتحويل سلطتها في الأحوال الشخصية وتنظيم الاسرة الى الفقهاء باعتبارهم – وفق فهم هؤلاء النواب– يمتلكون شرعية أصيلة في شؤون الاسرة والزواج والميراث، شرعية يستمدونها من النسق العقائدي الذي يستندون عليه بوصفهم "نواب الامام".
المفارقة هنا ان نواباً في البرلمان (وهو البرلمان الأقل تمثيلية بعد 2003 بسبب محدودية مشاركة الناخبين والاشكالية الناتجة عن ملء مقاعد نواب التيار الصدري بنواب خسروا الانتخابات) يشتقون سلطتهم من دستور الدولة الحديثة، لكنهم بتبني هذا التعديل انما يقوضون سلطة هذه الدولة وشرعيتها، بشكل يعكس بوضوح التناقض الكامن لدى معظم الإسلاميين والمتدينين الشيعة، بين رغبتهم "الجماعاتية" بالسيطرة على الدولة ومؤسساتها، وبين قناعتهم العقائدية بلا شرعية هذه الدولة.
قانون 1959 ليس مجرد قانون للأحوال الشخصية، بل هو تعبير عن منطق الدولة الحديثة الذي يجعل منها المشرع الأول والمنفذ الأول للقانون عبر محاكمها وهيئاتها واحتكارها لأدوات "الارغام المشروع"، وقد استند عند صياغته على تراكم طويل من العمل سبق مجيء حكومة عبد الكريم قاسم، و قام على تراث من الفقه القانوني الحديث في بلدان إسلامية أخرى، واشتق أحكامه من المدونات الفقهية الإسلامية بمختلف مذاهبها (ومن بينها المذهب الجعفري)، وفق رؤية "تقدمية" نسبياً تنسجم مع ظروف العصر الحديث. التحول الأساسي الذي عبّرت عنه عملية سنّ قانون للأحوال الشخصية هو ان الدولة، لا الفقيه ولا شيخ العشيرة ولا رب الاسرة، هي التي تمتلك سلطة صياغة القانون وتطبيقه، الأمر الذي اعتبره معظم الفقهاء "الشيعة" اعتداءاً على مساحة حركتهم المستقاة من مفهوم للشرعية يعود الى ما قبل الدولة الحديثة. لاننسى هنا أنّ السلطة الاجتماعية لهؤلاء الفقهاء (خلافاً لنظرائهم السنة) تشكلت عبر قرون من العمل المستقل عن – والمتشكك بـ - السلطة السياسية، وأنّ موفقهم المرتاب من الدولة وشرعيتها دفعهم الى التركيز على مجالات فقهية محددة، من أبرزها المعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية والارث والتي مثلت حقلاً أساسياً لعملهم وتأثيرهم الاجتماعي. لكن سلطتهم تلك أخذت تهددها التحولات الناتجة عن الحداثة والعلمنة واختراقهما المجتمعات واستجلابهما مفاهيم جديدة للسلطة والشرعية. لم يكن رفض كبار رجال الدين الشيعة للقانون متصلاً فقط برؤيتهم للمدونة الفقهية كنسق متكامل لا يمكن تجزئته ويعبر عن إرادة المشرع (الله)، تلك الإرادة المؤولة والمقننة عبر الفقهاء، بل كان ايضاً اعتراضاً على منطق الشرعية الذي تقوم عليه الدولة الحديثة ككيان قانوني – جغرافي، و ولايتها على "المواطنين" في مقابل ولاية الفقهاء على "المؤمنين". عبّر القانون عن مسعى الدولة الحديثة لاختراق المجتمع وإعادة تشكيله لينسجم مع واقعها القانوني والجغرافي، بينما عبّرت معارضته المستمرة حتى اليوم وسط الجماعة الدينية والتيارات الإسلامية الشيعية عن شكٍ عميق بشرعية هذه الدولة وحقها في الولاية، وبفكرة "المواطنة" المتضمنة فيها.
قدّم قانون 1959 صياغات لإمكانية التزاوج بين الفقه القانوني الحديث والفقه الإسلامي، تحت سقف علوية الدولة وشرعيتها، لكن ما يسعى اليه نواب "الاطار التنسيقي" اليوم في تعديلهم المقترح هو التأكيد على ازدواج الشرعية، بشكل ينتج سياقين متوازيين للسلطة: سياق الدولة الحديثة (الذي تُرك لمن يريد الالتزام به)، وسياق سلطة الفقهاء، أي انهم خلافاً للنموذج الإيراني الذي ذهب للمطابقة بين السلطتين عبر مبدأ ولاية الفقيه العامة، يريدون التمييز بين ولاية الدولة وولاية الفقيه ضمن الفضاء الجغرافي – الاجتماعي الواحد، وشحن التنافس بين الولايتين، وكأنهما سلطتين متوازيتين على الأحوال الشخصية، كما فعلوا مع المجال الأمني – العسكري حيث أنتجوا سلطتين متوازيتين، واحدة عقائدية أيديولوجية تشتق شرعيتها من العصبية الشيعية (التي قد تكون عابرة للحدود)، وأخرى دولتية تعتمد في وجودها على شرعية الدولة الحديثة.
جميع التعليقات 4
إيلاف
منذ 5 شهور
المقال جميل لكنه بحاجة إلى تدقيق لغوي
سوزان امين
منذ 5 شهور
حقاً ، وجود هاتين السلطتين هي بمثابة ساقين تثبت اقدامهم في السلطة ويخدم بقائهم ووجودهم على سدة الحكم بشكل افضل
خضيرالجبوري
منذ 4 شهور
قانون الاحوال الشخصية المزمع اقراره سيكون رصاصة الرحمة على النسيج الاجتماعي الوطني لانه سيعيد المجتمع العراقي الى عصر الجاهلية ،،، لانه سيقضي على مدنية الدولة.
بالفعل هذا ما اريدة القوى الإسلامية تدين الدولة والهيمنة على شرعيتها باسم المذهب
منذ 4 شهور
هذا ما تريده القوى الاسلامية الهيمنة على الدولة وشرعنتها باسم المذهب والطائفية وهذا منحى خطير جدا حين تحكم الدولة قوى قرارها لبس عراقي بل مذهبي