TOP

جريدة المدى > عام > من المطابقة إلى أفق الإمكان

من المطابقة إلى أفق الإمكان

نشر في: 7 أغسطس, 2024: 12:06 ص

كه يلان محمد
تراكمَت في المدونةِ الثقافية مصطلحاتُ ومفرداتُ تشيرُ إلى التطلع للقطعية مع زمن الانحطاط الفكري والحضاري.ويواكبُ العاملون في الحقل المعرفي سلسلة من الانتقالات المفاهيمية على المستوى الصوري غير أنَّ مايحولُ دون التمكن من اختراق السياقات التقليدية والانطلاق من حلقة التكرار نحو مرحلة الإبداع ليس إلا إدارة المعطيات الفكرية والمنحوتات الفلسفية بمنطق المماهاة والمُطابقة فيما البحث عن أفق للإمكان يجبُ أن يكون مبدأ للاشتغالات المعرفية ولايعقلُ الانكباب على المبحث الفكري بالنفس الاستعراضي، لأن إطلاق الألفاظ المدوية واجترار المصطلحات الرنانة واستهلاك البضاعة الرائجة أعراض لاستفحال المحنة وتضخم أورام الوهم على الصعيد الثقافي، والحال هذه لا يصحُ الاستغراب من الارتداد على العقلانية وأن تنتهي الدعوة إلى التنوير بالتهاوي في الظلامية والتجهيل.بالطبع أنَّ هذا الوضع يتطلبُ قراءة كاشفة لظواهر متفاقمة في الواقع الحضاري.وهذا مابادر إليه المفكر اللبناني علي حرب بحفرياته في تربة المشاريع الفكرية التي لم تكن حصيلة دعواتها إلى التنوير والديموقراطية والتحرر سوى مزيد من التزمت والاستبداد والتبعية.يرى صاحب "خطاب الهوية" أن جوهر الأزمة يكمنُ في فكرانية الأفكار التي تحيلُ العالم إلى عقائد مُغلقة أو عقول مفارقة أو أدلوجات إسمنتية.ومن المعلوم أن هذه النظرة الاختزالية للأمور ومحاولة تطويع الكيانات المُجتمعية والجماهيرية لإثبات صحة جملة من المقولات تؤدي إلى الاصطدام باللامتوقع والتخلف من حركة الفتوحات والاكتشافات الواعدة بخلق وقائعية جديدة.لأنَّ العالم كما يقولُ حرب ليس نسخة من مفاهيم مُسبقة ولايتغيرُ طبقاً للائحة من أفكار جاهزة.إذن مايحتاجُ إليه الوسط الفكري هو نقد المفاهيم وصوغها وتجديدها قبل أن تصيرَشعاراتِ جوفاء وتنتجَ عكسَ ماأراد منها الدعاة والمُنظرون.
مراوغة الخطاب
مايهدفُ إليه علي حرب هو الكشف عن مراوغة الخطاب بقطع النظر عن مُستنداته سواء أكانت لاهوتية أو ناسوتية.وهذا الموقفُ هو شغله الشاغل في جميع تأليفاته لاسيما كتابه العلامة "أوهام النخبة أو نقد المُثقف" الذي قد أثار جدلاً واسعاً بين المؤيد لتضميناته والمعارض لها.بخلاف جلَّ المفكرين العرب الذين انتظمت مشاريعهم في سياق نقد الفكر الديني أو نقد العقل أو نقد الآيدولوجيا فإنَّ علي حرب ينخرطُ في نقد النص فاصلاً خط قراءاته من المسبقات والهوامات وبذلك تتسعُ حدود الإمكان للحفر والتحويل والصرف وفي هذا الإطار تأتي قيمة النصوص من كونها مواداً للعمل وحقولاً للتنقيب.الأمر الذي يفند القولَ بأنَّ المبادىء والمشاريع صحيحة ويلقي بوزر الأخطاء على آليات التطبيق.لأنَّ هذا الفهم لايجدي نفعاً في صياغة المنطق التحويلي ويجردُ النص من تواريخه التي هي تأويلاته وترجماته المتواصلة.كما يفرغه من طاقاته المجازية والرمزية.والأهم في مسعى مؤلف " حيدث النهايات" هو المسافة التي يتخذها من جميع الخطابات المعرفية والبرامج الفلسفية إذ نجح في فك العقدة التي يعاني منها معظم المثقفين في نظر إلى الفكر الغربي كما خرج من دائرة وهم المماهاة والمطابقة مع التراث والأصالة.ويستمدُ على حرب مسوغه في اشتغاله التفكيكي من الدراية بإنشاء المقولات وإدراكه العميق بمناورات الخطاب وإزدواجيته لذلك يؤكدُ باستمرار على ضرورة التوخي بالحذر في التعاطي مع الخطاب لأنَّه بطبعه يسدد المعنى من جهة لكي يخرقه من جهة أخرى.ومن الأقوال التي يناقشها حرب كاشفاً المحجوب والمضمر في بنيته هو مانطق به ماركس بأنَّ الأهم هو العمل على تغيير العالم وليس تفسيره أو فهمه.قد لانحتاج إلى التذكير بأنَّ هذا الكلام لايزال متداولاً في بورصة الثقافة.وماينبغي أن يستنطقَ هوغير المصرح به أو اللامرئي في الجملة التعبوية إذ إنَّ صاحبها قدم فهماً للعالم من خلال فلسفته المستوية على رجلها ومن ثمَّ يستخفَ بمن يشتغل على الفهم مايعنى أنَّ تفسيرهُ قد نسخَ تفاسير أخرى وقطعَ الطريق على أية مبادرات لاحقة. ومن المفارقات التي يلتفتُ إليها علي حرب أن الماركسية نشأت على فلسفة التناقض والجدل وانتهت كمشروع آيدولوجي لبناء مجتمع بشري خال من التناقضات والجدل كذلك فإنَّ الأحزاب الدينية التي أعلنت مقاضاة الدنيا بالآخرة وصل بها الأمر إلى استبدال النعيم الآخروي بجنة السلطة.وهذا المنحى النكوصي ينسحبُ على المثقفين والحراكات الليبرالية بينما يدعو معشر الانتجليسيا إلى التنوير فإذا بك تتفاجيء بإن العلاقات القائمة بينهم أبعد ماتكون عن التنوير والديموقراطية. مايقوله المثقف عن نظيره في الشغل لم يقله مالك في الخمر.وبالتالي لا مبرر للعجب من تصاعد رصيد اليمين المتطرف لأن المثقفين الطلعيين فشلوا في تقديم بدائل مُقنعة،وكانت الأسبقية للأقوال على الواقع في أجندتهم.وفي ذلك جمود ومقتل للفكر الحيوي.عليه كما يحددُ علي حرب فإنَّ مشكلة المثقف لم تعدْ مع السلطة ولا مع الجماهير أو المجتمع بل مع الأفكار التي تسترُ أكثر مما تكشف.واللافت أنَّ النبرة الخلاصية الغالبة على صوت الفقيه أو الداعية تتسربُ إلى مداخلات المثقف التنويري الذي يُقيمُ علاقة مع مقولاته على مبدأ الدفاع والترويج ومن الواضح أن مايؤول إليه هذا النسق من التفكير هو واقع بائس وأوضاع مزرية.ويستعيدُ صاحب "مابعد الحقيقة" محنة "طه حسين" بعد إصداره لكتابه الشهير " في الشعر الجاهلي" فمن حمل عليه واتهمه بالإساءة إلى الدين هو الشيخ الأزهري غير أن القاضي المتنور قد حكم ببراءته أما الذي كفرَّ نصر حامد أبو زيد فكان زميله في الجامعة المصرية.وهذا يشهدُ على صوابية رأي "محمد أركون" الذي قال بأنَّ التاريخ يسير بالمقلوب في مُجتمعاتنا.مجملُ مايمكن قوله بشأنِ مايسودُ في المعترك الثقافي أنَّ النقد ينبغي أن يرتدَ نحو المثقف وعُدته وأوهامه.ومصارحته بأنَّ نخبويته قد أودت به نحو العزلة والجمود والاغتراب الأجوف عن المجتمع.وإبلاغه بأنَّ زمن الوصاية والقول الفصل واستئار بمفاتيح الحلول قد ولَّى.ولايستثنى علي حرب المثقفين والفلاسفة الغربيين من مرمى متابعاته النقدية فبنظره أن الفلاسفة والمفكرين من أفلاطون إلى رسل وسارتر ينجحون في تحليل الواقع البشري بإنشاء تراكيب مفهومية راصدة لكل أبعاده وصراعاته لكنهم يناقضون أنفسهم عندما يتصرفون كمصلحين ومناضلين. ومايعادُ إلى المسرح ليس المنحى العقائدي والأيدولوجي في أدبيات الفلاسفة إنما النصوص التي تفتحُ إمكاناً للتفكير ولاتستنفدُ مفاعيلها على مرِّ الزمن.
الليبرالية الفكرية
تتعقدُ مشكلة المثقف ويغيبُ دوره الفعلي مكتفياً بالحضور الشكلي لأنَّ إرادة العقيدة تسبقُ إرادة المعرفة في منهاجه.كما أنَّ توهمه بالقبض على الحقيقة يُضيقُ عليه زاوية النظر إلى أن يقعَ في مطب التفسير الأحادي للظواهر ولايمكنه قراءة الوقائع من منظور مركب.والأدهي من ذلك هو قناعته الحديدية بانه ينفردُ بالحكمة وحظوة فض المغاليق والمعضلات الخانقة لكن مايسفرُ عن كل هذه الهوامات ليس سوى تبعثر الأوراق والخلط في التقدير.لاشكَّ إنَّ تفكيك الانسدادات يستدعي مايسميه علي حرب بالليبرالية في الفلسفة والتفكير بمعنى عدم التبعية للأفهومات والمذاهب الفلسفية والعبارات المستوردة أو المُستعادة.ويعوض كل ذلك باتقان لغة الخلق والفتح والكشف وماينبغي كسره في التعامل مع الأفكار هو منطق الاستقطاب بين ثنائيات العقل واللامعقول لأنَّ العقل لايتوقف من انتاج لامعقوله أو الفلسفة ومايقع ضمن تفاصيل الحياة اليومية لأنَّ المبحث الفلسفي يتغذى فعلياً على ماكان يستكبرُ عليه من اللعبة والموضة والطبخ.يرمي حرب في حفرياته المعرفية إلى كشف الغطاء عن الشطر اللامرئي في الخطابات المهمينة إذ يتضايف برأيه الوهم والفكر لافتاً إلى مايقوله "مانويل دي دياغيه" بأن كل فكر له طوطماته"فالسحر والخرافة والقداسة والدين والغيبيات هي أشكال وأبنية وعلاقات لاتنفك تحضر وتمارس داخل عقل واحد" ومن الضروري أن الاعتراف بأنَّه لم يعدْ هناك طرفُ يمكنه مصادرة المشهد بل يشاركُ كل من يخلق وينتجُ في مجال عمله في تركيب الصورة سواء أكان فيلسوفا أو لاعباً.ومايشير إليه حرب في ختام كتابه "مابعد الحقيقة" إنَّ الاستغراق في عالم الفكر قد يؤدي إلى نسيان الوجود وحجب الوقائع وهذا يسبغُ على الأفكار أختام الأصولية. إضافة إلى اشتغاله على المفاهيم والخطابات السائدة محاولاً الإبانة عن المساحة المُعتمة في تشكيلتها المركبة يتناولُ علي حرب في مؤلفاته طبيعة الكائن البشري وما جُبِلَ. عليه فبرأيه إنَّ الأصل في الإنسان هو الهوى والطمع والعصبية والعدوان أما التعقل والحكمة والتدبير صفات مكتسبة تحتاجُ إلى أعمال الترويض والمراس والاتقان وبناءً على هذا الرأي يميزُ مؤلف "الحب والفناء" بين العقل الأداتي أو الحسابي والعقل بنسخته الأرسطية أو الفارابية أو الديكارتية فالنوع الأول يحقق المعجزات يوما تلو آخر أما النوع الثاني أي العقل بوصفه جامعاً لبني الإنسان لايتقدم بل يتراجع عن ذي قبل.تشملُ عملية النقد لدى "علي حرب" المحاولات الرامية لربط النتاج الفكري والفلسفي بشعب من الشعوب أو بمنطقة جغرافية معينة فهو يعتقدُ بأن ابن عربي أكثر مرونة عقلياً وفكريا من هيغل كارل بوبر وهيدغر لأنهم قد خلعوا الطابع الاغريقي على الفلسفة والعقل بينما يقول صاحب "فصوص الحكم" لقد صار قلبي قابلا كل صورةٍ.يعتبرُ "حرب" بأنَّ الفكر الصوفي وعي حاد بمحنة المعنى وإشكالية الحقيقة بتوتر الفكر وقلق الذات لذا يواصل التمرس عليه والملاحظ في مسيرة علي حرب الفكرية أن معجمُه يقوم على مفردات صوفية "الكشف،الحجب، الفتح" غير أنَّ استعارته من القاموس الصوفي تستندُ إلى منطق تحويلي على غرار مايفعل ذلك مع الفلاسفة. فا"لتحويل المبدع فلسفياً هو الذي يحيل ماليس بفلسفة إلى عمل فلسفي خارق".مايجدرُبالذكر في هذا المقام أن النقد ليس معادلاً للنفي والإقصاء بل هو بحث عن الإمكان بدلاً من الاستهلاك إستكناه لدينامية الخطاب ومكر اللغة والصامت في الكلام والكامن في المفاهيم وبهذا يشبُ التفكير من طوق الشعارات ويتم كسر جليد الثبوتيات.ولايكون التعالي على الواقع عنواناً للاشتغال الفكري

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram