TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: الشعر هو ما يجعلنا نحلم

قناطر: الشعر هو ما يجعلنا نحلم

نشر في: 7 أغسطس, 2024: 12:07 ص

 طالب عبد العزيز

قليلاً ما أكتب الشعر في الصيف، بل هو لا يأتيني فيه، فأنا أكره الحرَّ والشمس اللاهبة، ذلك لأنني رجل شتوي بامتياز، أحبُّ البرد والرياح القارصة والمطر والثلوج، ولا أجمل من احتضاني لنفسي قرب الموقد، موقد الحطب بخاصة، التي ناره من جذوع النخل وأغصان الشجر اليابس الصلد، هي ما تشعرني بالشعر كتابةً وتأملاً أو معايشةً. لا أشرب القهوة بدعوى سماع فيروز، ولا اسمع فيروز بدعوى شرب القهوة، بل، أحبهما معاً. وهنا، لا أسجلُ فرادةً للشعر وحده، إنما أتحدث عن عموم الخلق الفني، روايةً، ولوحة فنيةً، وقطعة موسيقية… الخ
أرى بأنَّ الشاعر يكتب الشعرَ ليكتبه، لا أكثر، هو لا يدَّعيه، ولا يستجلبه من عدم، ولا يتذلل في طلبه، فما عُرفَ الشعراءُ بهذه، ابداً، والقضية أكبر من ذلك بكثير. الشاعر يرى أنَّ ثمةَ إرباكاً ما، خللاً جوهرياً في الوجود وديمومته، لا يقوَّمُ عودُه الا بالشعر. أقول هذا بضرس قاطع: إذْ ليس في الامر تسلية او ادعاء، ولا نفاجة. لا تأخذوا أمر المدعين على محمل الجد، قليلون جداً هم أولئك الذين يقع على كاهلهم حمل العبء الثقيل هذا، حيث تعجز عن حمله الملايين، من البشر، ويحمله الشعراء، وإن لم يصرّحوا بذلك. نعم، هم لا يقولون شيئاً مزلزِلاً، أعرفُ ذلك، وبإمكان الحياة أنْ تمضي على دابتها وبمن فيها بحسب مشيئتها الحيوانية، كلُّ هذا وارد أيضاً.. لكن، لنتفق جميعاً على أنَّ هناك أشياءَ تعمل على توازن الكون. الانسانية في خطر دائم، خارج الشعر والفنون بعامة. وإنْ كنتُ لا أعرفُ لماذا؟
يقول جبرا إبراهيم جبرا: إنَّ لحظات الابداع أشبه بالحمّى، التي تستبدُ فجأة بالكيان، باللحم والدم، وليس هناك ما يردّها حتى تنسحب هي بنفسها، أمّا القصيدة فتأتي كما تأتي نوبة الصرع، والشعور لحظةَ الانتهاء من الكتابة هو شعور العائد الى وعيه، شعورُ العائد من رحلة مجهولة هائلة". لم يقم ماسينيون بترجمته لأشعار الحلاج الى الفرنسية لولا عشقه الجنوني لحياة الحلاج، الشاعر والمتصوف، حيث يستحيل التفريق بين لحظتي الشاعر والمتصوف. نحن في كتابة الشعر نكون أمام لحظتين، يتداخل فيها أمران، كلٌّ يدعو صاحبه لقول ما، فإذا ذهب الصوفيُّ لخِرقته، واستوى على جود روحه، هائماً، متفكراً في محبوبه، وما يجاوره، يكون الشاعر قد ذهب بروحه، متعاطياً مع ما يحدث، محترقاً يمور في مِرجل قلبه. كان ماسينيون قد توحَّد مع الحلاج الشاعر لا المتصوف، لكنْ، كان يريد أنْ يأتيه صوتُه محمولاً على الصورة، التي ينفرد الحلاج بها.
وحين ننظر في قضية كافكا مع صديقه ماكس برود، الذي سلّمه كافكا أوراقه كلها في براغ، وأوصاه بحرقها بعد موته، سنتوقف، ونقول ماذا لو أنَّ ماكس برود لم يتريث قليلاً، بتنفيذ الوصية، التي أهملها فيما بعد، حين اكتشف بأنَّ الأوراق هذه ذات أهمية كبيرة، وارتأى بأنها لا بدَّ من أنْ تنشر؟ ترى كم ستخسر الإنسانية بإقدام برود على حرق الأوراق تلك؟ برود الذي لم يحظ بالشهرة ككاتب، إنما لأنه لم ينفذ وصيّة صديقه كافكا! هو الذي سيكتشف أنَّ بين يديه جوهرة لا يدري بالضبط كيف تحققت! وليس بعيداً عن ذلك ما نقرأه في إحدى رسائل فلوبير الى عشيقته لويز توليه، فهو يكتب:" يبدو أنَّ أسمى وأصعب ما في الفن ليس الذي يجعلنا نضحك أو نبكي، وليس أنه يثير فينا الشهوة أو الغضب، بل ما يجعلنا نحلم!! من يحمل عبء الحلم ذاك يا ترى سوى الشاعر والفنان؟
إذا كان الوجود بعامة لا يُحتمل خارج فنون الرسم والرواية والموسيقى وعموم الفنون الأخرى فأنه سيكون بلا معنى خارج الشعر، هناك حاجة أزلية الى الشعر، ليس المكتوب منه بالضرورة، إنما تحسسه في الكون والشعور العام به. هناك خلل انساني لا يقوَّم الا بالشعر، والخلق بحاجة الى الشعر، لأنه الوحيد القادر على سلب الوجود ما يضره، ويهدده، أوما يعلق بحياة الإنسان فيه من آثام واباطيل. هناك ملمس خشن في ثوب الوجود الانساني لا يمكن البقاء عليه وتلمسه الا بحرير الشعر. إذا كان الطبيب قد أمضى ساعات لا تحصى ليتعلم الطب فأن الشاعر والفنان يقضي ساعات لا تحصى ايضاً يتعلم من الماضي وتطبيقه على الحضارة الحديثة، الفن يلامس كلَّ جزء من حياتنا. "وهو الذي يوفر لنا الكثير من الذكاء العاطفي والجمال وإنعام التفكير في عالم أصبح مجنوناً بسبب الافراط في الموضوعية والدقة من أجل الدقة. بحسب مايكل فوستر.
لم تقل رابعة العدوية شعراً، لكنَّها منحتنا إيّاه حين قالت لأحمد بن أُبيّ الحَواري في قِدْرٍ طبخته له: "كلها، فوالله ما أنضجتها إلّا بالتسابيح" أو لم تكن هي التي قالت لزوجها أحمد:" ربّما رأيتُ الحُورَ العِينَ وهنَّ يذهبنَ ويجئنَ في داري ويجلسنَ، ويتسترن بأكمامهنَّ مني.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram