حداثة أو قدامة النص في العمل المفهومي:
... ويمكن القول إن المفهوم كائن اصطلاحي, شرطي لحصول الفهم ،له حياته الخاصة, المعرفية, والفكرية, التي تتغير في سياق المجال
المعرفي الحاضن لها, وفي المشكلات التي تطرحها أو التساؤلات
التي تجيب عنها أو المركبات التي تقوم أو تنهض على صرحها. وتنتج
المفاهيم أشكالا تنسجم ومجالها المعرفي, كونها ترتب بمجموع
وعمليات تخص إنتاجها وصناعتها, إذ تتخذ ترتيبية تفاضلية بحسب
أهمية حقلها المعرفي, أو بعبارة أدق بحسب الإقليم المعرفي والدلالي
الذي تنشأ فيه وتترعرع .
عمر كوش(*)
في معرض دوكومنتا الخامس عام (2072) وتحت عنوان (ذو صبغة باطنية)**)عرض عمل لفنانين من مجموعة (الفن واللغة) التي تأسست في المملكة المتحدة عام(1968). العمل يتكون من منصة حجرية ترتفع فوقها عدة أدراج لحفظ ملفات سوداء تحتوي كتابات في الفن والسياسة, وعلى الحائط نص بأعمدة طويلة من الأرقام والحروف التي تمكن المشاهد من فك نصها حسب هواه. ليس العرض هذا هو الوحيد الذي كرس النص المكتوب عملا فنيا. لكننا ولحد الآن لا نعدم الاشتغال على النص المكتوب أو المقروء أو صورته الضوئية والصوتية الفيلمية. علما بأن أكثر الأعمال النصية الفنية سواء ما كان منها ملغزا أو مفهوما لا تعدم جذرها الحفري التاريخي ، وإن كانت في فترات تاريخية سابقة تندرج ضمن النصوص السحرية, ومنها طلاسم المنطمات الكهنوتية السرية مثلا. لكن وبما أن القصد من كل ذلك خلق مفهوما من أفكار موازية للواقع, رغم لا واقعيتها. فإن تاريخنا الأدبي العربي والإسلامي لم يخلُ من شواهد نصية كثيرة مبثوثة في صفحات لا تحصى من المؤلفات المشهورة, كألف ليلة وليلة, وكليلة دمنة. والعديد من النصوص الكهنوتية الباطنية التي لا تحصى. الفنان المفاهيمي البلجيكي(فرانسز ايلس) جعل الثعلب يجول وحيدا وضائعا في دهاليز متحف البورتريت اللندني وكان عملا عبثيا ظاهره. لكن الفنان لا يبحث عن العبث كفعل مطلق. كذلك لم يكن في نية روزبا كليلة ودمنة أن يكون اختراعه فكرة الثعلب عبثا. وان اختلفت دلالات الفكرتين. لكننا استقبلناهما كعوالم افتراضية محاذية لبعض غموض عوالمنا الدفينة, أو كعوالم مواز ية لعالمنا. هنا يكمن اللغز الفني المراوغ, سواء كان صنعة ذكية, أو متعديا وهم أدواته التقنية التقليدية.
قبل سنوات قليلة قام فنان يوغسلافي في قاعة الفن الرئيسة لمدينة مالمو السويدية, بمناسبة مهرجان الشعر العالمي, بأداء نصي مفهومي, لم يكن عرض هذا الفنان سوى ترديد الحروف الأبجدية السلافية القديمة المنقرضة ،بجانب صورتها الخطية على شاشة العرض المرافقة. في محاولة منه لاستعادة صوت حروفه الأثرية, أو لسانه الضائع شكليا, وسط جمع من مؤدي أصوات الحروف العالميين(الشعراء), وكتذكرة لاستعادة النسيان.التذكارات الألسنية(المفاهيمية) العربية الأخرى, ليست نادرة, فالأثر يزخر بها. لكننا وكأبناء لجيلنا المعاصر نفتقد النصوص المتحولة أداءات فنية مفاهيمية تستوحي روح العصر ولا تنفصل عن حاضنها البيئي,مثلما كانت,. وبما أن العديد من الأداءات الفنية المعاصرة انبنت على نصوص شعرية. أو ألغاز دلالية, أو رؤى حلمية أو بوح لسير شخصية أو مقاربات لمفاهيم سياسية أو اجتماعية أو أي نص قابل لتحميله معاني مستترة لكنها ربما تكون قابلة للكشف عن دلالات خباياها بمفاعيل أدوات الأداء المفاهيمي. ولقلة اشتغالات الفنانين العرب على الأداء كـ(نص أو صوت), وربما بتأثير من ثقافتنا الشفاهية الطاغية اجتماعيا. فهل بإمكاننا أن نعتبر أداءات ثقافية اجتماعية لا تزال تمارس تأثيرها في الوسط الاجتماعي العربي كـ(الداعية الوعظي المعاصر.. الأفندي) أو المؤدي الكوميدي الميلودرامي, مثلا. نماذج فنية أدائية, بما أنها امتداد للراوي الشعبي في موروثنا الشعبي العربي (بمنصته, أو مسرحه الافتراضي). أعتقد, وبما أن الأداءات المفاهيمية المعاصرة لا تنفصل عن حاضنها الاجتماعي. فبإمكاننا اعتبارها أداء مفاهيميا بشكل مجازي. فالفكرة, أو الأفكار جاهزة لمناورتها مسرحيا(أدائيا) في كليهما. ومع ذلك. فان الهاجس المفاهيمي المعاصر يبقى غائبا عنهما إلا فيما ندر. لكنها مع ذلك تبقى تجارب من الممكن استلهامها في العمل الأدائي العربي بموازاة مداخلاتها الاجتماعية, مع اللعب على مضامينها بما يناسب الكشف(الباطني) أو أسرار اللغة المعاصرة واهتماماتها الفردية والجماعية, الجادة منها والفنتازية.
أحيانا لا نعدم هكذا اشتغالات بشكل مطلق. الفنان المغربي محمد الباز مثلا في نصه الفني(لنتخيل) يجيز للأفاريز الكونكريتية الخارجية لبناية في عمان(أعتقدها مرآبا عاما للسيارات) بطبقاتها المتدرجة, أن تحمل عبارات نصه المفهومي. هو أيضا يحمل العديد من أعماله التجميعية الجسدية(الفوتوغرافية) نصوصا لا تبتعد عن خفاياها المفهومية. الفنان الآخر, الفلسطيني أشرف فواخري في عمله التجميعي(أنا حمار, صنع في فلسطين) المتمثل بمجموعة على شكل أوراق مذكرات ملصقة على بلوكات خشبية معلقة ومرصوفة بصفين على الجدار وبرسوم حمير وبتكنيك حر. العمل أعتقده يمثل نصا تجاوزيا متعدد القراءات. وإن كان عمل الباز نصا حروفيا بتأويلات وجدانية ، فإن عمل فاخوري مقروءا بإيحاءات سياسية تعدت نصوصه المدونة.
تنوعت الاشتغالات الفنية المفاهيمية بتنوع حوامل موادها واختلاطاتها. لقد دخلت الصورة المعاصرة( وهي من أدوات الميديا النشطة) مجال أداءات الفنان. وباتت الصورة الفوتوغرافية الفنية والفيلم الفيديوي, من عوامل انتشار العمل المفاهيمي, والعمل التجميعي أو الإنشائي, إضافة للوسائل والوسائط المختلطة المتعددة التقنيات. وزيارة واحدة لمعارض أطروحات طلاب الفن في المعاهد والكليات الفنية العالمية المعاصرة, تقنعنا بأن معالم الفن التشكيلي قد تغيرت بشكل كبير ومثير, وغريب أحيانا يوازي غرابة التحولات الدراماتيكية في مجالات الفنون والعلوم المعاصرة. لقد أقصت هذه النتائج المختبرية الفنية (غالبا)الوسائط التنفيذية التقليدية(الحداثوية) بوسائط الصورة الرقمية الجديدة والضوء والصوت والميكانيك والكهربائية والفروع العلمية الجديدة ومفردات العمارة التفكيكية وكل ما يخطر على البال من وسائط قابلة لمطاوعة تنفيذ الأفكار والصور الغرائبية. لكن وفي الجانب الآخر, أدى ظهور هذه المكتشفات(الرقمية) إلى توسيع أرضية الاشتغالات الفنية الاجتماعية أيضا. وكما حلم الفنان الألماني(جوزيف بويز) بأن كل إنسان فنان بالفطرة, وحاول تطبيق ذلك حينما كان أستاذا بكلية الفنون. فالوسائط الرقمية وما يلازمها من برامج الفوتو شوب وسلالاته التي لا تنتهي, وفرت لأي كان ومن أية فئة عمرية أن يحقق حلمه فنيا ويخلق عالمه الثاني المفضل. بل حتى يعممه على برامج التواصل الاجتماعي عبر الانترنيت. واختفت الحدود بين المفهوم والافتراض.
كثرة أعمال الفنانين العرب في هذا المجال الإبداعي لم تعطني الفرصة الكافية لتغطية نشاطاتهم, داخل وخارج بلدانهم, وإن تكن أعمال الفنانين العرب المغتربين أكثر عددا. ولم يعد للريادة من دخل في هذا الأمر(كما كانت الحداثة). فالفضاء السبراني مفتوح على سعته للاطلاع والتأثر والتأثير والتداول. لكن مع كل ذلك فلا يزال الفنانون المجيدون يتلقون (علومهم الفنية) في العديد من أهم جامعات الفن في العالم ،مما يوفر لهم فرصة اختزال زمنهم للدخول إلى المجال الفني العولمي بأدواته المعاصرة الأكثر تأثيرا. وان حافظ العديد منهم على صلة وصل وحواضنهم المحلية الأولى, فان الإغراءات الملتبسة بأهداف شتى أخذتهم بعيدا عن ذلك. لكن يبدو أن للقضايا السياسية والاجتماعية الأكثر إلحاحا, ومنها قضية فلسطين ولبنان وحرب العراق, في الشرق. والهجرة غير الشرعية والهوية الوطنية, في شمال إفريقيا. والقضايا العامة كالتلوث البيئي والحروب الطائفية والإرهاب وصراع الأضداد الثقافي والبيئي, نصيباً وافراً من هذه الاشتغالات.
أمثلة: من لبنان اشتغلت الفنانة الشابة(تانيا الخوري) على تنفيذ عدة أفكار بالفيلم الفيديوي, منها فيلمها(موجز مرئي) عن تعارضات البيئة المدنية وحرية الذات المتوحدة. وانتقلت إلى فكرة مغايرة تماما في فيلمها(حياة الخشب, أو الغابة) حيث توحدت شخصيا وعالم سكون مخلوقات الغابة الخشبية, وحاولت ممارسة إنبات ذات جديدة بمحاذاة ذوات الغابة الأزلية. لقد تنقلت بكل حرية بين أدائين مفكر بهما قبل التنفيذ. وهذه أحد أهم سمات تنفيذ الأعمال الفنية المفاهيمية.
المغربية زينب سديرة في مجموعة أفلامها (التوابيت العائمة), اشتغلت بمقدرة تنفيذية عالية على تفكيك صور الهجرة غير الشرعية. ولم تكن الصورة عندها إلا معادلا لتبادل الأدوار الدراماتيكية عند حافة الانهيارات أو الخيبات الإنسانية وسطوة مشهدية البحر بصفاء مياهه غير العابثة بمصائر لم تكن تخوض تجربة الصراع من اجل البقاء, لولا الضرورة القصوى لذلك. لقد تلاقحت أفكارها عن الحدث الدراماتيكي المتحرك. وسطوة الفضاء اللغز المتعثر بما يحمله من أقدار هو غافل عنها.
للفنان العراقي المغترب(وفاء بلال) صورة فوتوغرافية معبرة تحمل كل معاني الحدث الفلسطيني. لقد بدا الفنان فيها عاريا تغطس أرجله في الأرض المشققة و يحمل على ظهره هيكلا لقبة الصخرة. لقد جمع الفنان في هذا العمل معاني النكبة الفلسطينية واستلاب حتى ما تبقى من رموز أرضها, وبقي وحيدا وسط محنته لا يستطيع حراكا. فلا هو استطاع انفصاما من تربته(أرضه) ولا هو ثبت إرثه التاريخي ورمز الجيني(كعبته الثانية) ،ولا استطاع خلاص نفسه. لقد أبان العمل(الصورة عن مجمل اشتغالات الصورة مفهوميا. وبأقل الوسائل التنفيذية. وهذه أيضا ميزة من ميزات الأعمال المفهومية التي يتجاذبها طرفا الاختزال (منيمالت) والمشهدية الواسعة.
ولا يسع المجال لذكر مزيد من الأمثلة لأنها لا تحصى.
(*) ـ عمر كوش, عن كتابه أقلمة المفاهيم, منشورات المركز الثقافي العربي
Hermeticism(**) ـ