TOP

جريدة المدى > عام > الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

نشر في: 18 أغسطس, 2024: 12:28 ص

د. نادية هناوي
كتب محيي الدين زنكنه المسرحية والقصة القصيرة والرواية والمقالة؛ وعنده الأجناس قوالب، مهمتها أن تساعد في توصيل الدلالات الثقافية والفكرية. ولقد مكَّنته موهبته الأدبية وثقافته ووعيه من أن يضع أجناس الأدب المختلفة في خدمة أفكاره الايديولوجية والتعبير عن تطلعاته الواقعية. ولقد سئل في إحدى المقابلات: أيهما أقرب إليك القصة أم المسرحية؟ فأجاب: (اهتم بالمكان بشكل كبير، ومهمة الأديب أن يساعد الإنسان على اكتشاف طاقاته يقول ماركس: ما دامت الظروف هي التي تصنع الإنسان فلنصنع ظروفا إنسانية)
وكان الدكتور علي جواد الطاهر قد عدَّ محيي الدين زنكنه مع نور الدين فارس وعادل كاظم أول من ارتفع بعالم الكتابة المسرحية في العراق. وأخذ الطاهر على نور الدين فارس انشغاله بالتدريس عن كتاب النص المسرحي وعلى عادل كاظم أنه التصق أكثر بكتابة النص وانصرف إليه واقتصر عليه. أما محيي الدين زنكنه فـ(ظل يثابر معتمدا على نفسه مستمدا العزم من التضحية والجد في العمل المسرحي وكان بإمكاننا أن نهيئ له ما يرفعه أكثر وما يقرن التجربة الفردية المحلية بالتجربة الجماعية العالمية ولكننا لم نفعل من حيث القصة والمسرحية. وإذا كان موقفنا من هذه المواهب غير تربوي فكيف نقف موقفا تربويا من مواهب علينا أن نستكشفها في عالم الغيب) (من حديث القصة والمسرحية، ص375)
وكان الدكتور عمر الطالب قد تتبع مسيرة التأليف المسرحي النثري في العراق بدءا من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حتى منتصف ستينيات القرن العشرين في كتابه(المسرحية العربية في العراق)1971. وهو في الأصل أطروحة دكتوراه بعنوان (الفن القصصي في العراق/ الرواية والمسرحية) أنجزها عام 1967 وفيها عدَّ نعوم فتح الله سحار المتوفى عام 1900 أول من بدأ التأليف بمسرحية(لطيف وخوشابا) عام 1893. وعمل الطالب جردا بأسماء المؤلفين المسرحيين العراقيين مثل محمد منير آل ياسين ومحمود الدوري وسليم بطي وشالوم درويش وأدمون صبري وفؤاد التكرلي ونديم الاطرقجي وقاسم حول وياهو خضوري وصفاء مصطفى ونزار سليم وعبد الصمد خانقاه وعبد المجيد لطفي وعبد الملك نوري. ووضع كلا من شاكر خصباك وجيان في طليعة كتاب المسرحية الاجتماعية في العراق. ولم يذكر محيي الدين زنكنه الذي كان وقت إعداد عمر الطالب لأطروحته قد انتج مسرحيتين هما(احتفال في نيسان 1959 والإشارة 1965) أما وقت نشر الأطروحة كتابا عام 1971، فإن زنكنه كان قد قدَّم أربع مسرحيات مهمة هي(السر 1968 والحرباء 1969 والجراد 1970 والموت سداسيا 1970)
إن نصوص محيي الدين زنكنه المسرحية والروائية والقصصية لم تلق اهتماما نقديا واضحا خلال حياته. وهذا ليس بالغريب لأن النقد الأدبي في القرن الماضي لم يكن ينظر إلى التأليف المسرحي - كما يقول الناقد الطاهر - نظرة جادة، ولذلك لم يقدِّر كتابة المسرحية حق قدرها. ولا يخفى أن النقد الأدبي في العراق كان موجها بشكل كبير نحو الشعر اولا وبعده القصة والمقالة ثم تأتي آخرا المسرحية.
وتنماز أعمال محيي الدين زنكنه الروائية بمنحى سردي يقوم على الصراع الميولودرامي حينا والدرامي حينا آخر سواء في مجموعته القصصية (السهل والجبل) أو في رواياته الثلاث: (يبقى الحب علامة) 1975 ورواية(ئاسوس) 1977 ورواية (بحثا عن مدينة أخرى) 1980. ويذهب بعضهم إلى عد (ثمة خطأ ما) و(الموت سداسيا) روايتين والصحيح أنهما قصتان طويلتان.
وكان الدكتور شجاع العاني قد درس الروايات الثلاث فوجد في (يبقى الحب علامة) طبيعة كافكوية كابوسية يغلب عليها السرد المشهدي وفي رواية (بحثا عن مدينة اخرى) مكانا معاديا، فيقرر البطل تركه والبحث عن منفى له في مدينة أخرى متنكرا لكل ما يؤمن به من قيم، في إشارة رمزية الى فقدان الانسان لحريته وكرامته. أما رواية (ئاسوس) فوجد فيها أن المكان التاريخي - جبل ئاسوس- أسبغ على الشخصيات حمايته ولذلك قارب الدكتور العاني بينها ورواية(المغارة والسهل) لزهير الجزائري.
ولقد شكَّل الحوار بأنواعه الخارجي والمونولوجي والمناجاة في روايات محيي الدين زنكنه عنصرا رئيسا. فكانت النزعة المسرحية غالبة على البناء السردي كما أن للمضامين دورا في تطوير الأحداث واحتدام الحبكة. ولا تعني مركزة الحوار أن زنكنه كتب روايات متعددة الأصوات، بل هي روايات تقليدية ذات صوت واحد. ذلك أن السارد العليم او الذاتي يبقى مهيمنا بوجهة نظر إيديولوجية، ومن خلالها تتحدد علاقة الأحداث بالشخصيات وعلاقة الشخصيات بعضها ببعض.
والسبب وراء هذا التركيز على الحوار هو أن زنكنه كاتب مسرحي بالدرجة الأساس، يضاف إلى هذا سبب آخر قد لا يبدو ظاهرا وهو أن الحداثة التي عرفها الأدب الكردي كانت قد تمثلت في النزعة الدرامية. وكان للشاعر عبد الله كوران أثر مهم في وضع الشعر الكردي على طريق الحداثة بما كتبه من ألوان شعرية مثل القصيدة الغنائية والاوبريت والقصيدة المسرحية والقصيدة الحوارية سائرا على درب أحمد شوقي وخالد الشواف. ولا يخفى ما للدرامية من دور في جعل السرد نابضا بالحيوية، يحاكي الواقع الحياتي الموار بالمتغيرات من خلال توظيف الحوار والوصف الموضوعي والمشهدية والمونتاج وما الى ذلك.
وما يميز رواية(ئاسوس) هو حواراتها الخارجية المطولة، وبلغة رومانسية ذات مسحة بلاغية، غير أن أغلب تلك الحوارات يجري عبر سماعة الهاتف الأرضي، وأدى استعمال الاستبطان الداخلي دورا في كشف الاعتمالات النفسية الشعورية واللاشعورية. واتقن الكاتب استعمال تقانة المشهد السردي كمشهد الشرطي في نقطة التفتيش أو مشهد السجناء وهم يضحكون على عربية الجد(أي كاكا شنو التفاح بالكردي ويضحكون بطلاقة غريبة) أو مشهد المرأة المسنة في الموكب الجنائزي ويعادله مشهد الزوجة داليا التي شغلها حزنها على وليدها الذي ازداد مرضه بسبب الطائر الذي فارق الحياة. أما توظيف عين الكاميرا ومنتجة الافكار مكانيا وزمانيا، فلعبت دورا مهما في تمكين السارد الموضوعي من عرض أدق التفاصيل.
وتتصاعد حدة الاحتدام السردي بشكل درامي من خلال ما يجري في الحوارات المباشرة والمونولوجية من تأزم نفسي يصيب أفراد الاسرة: الام داليا والابن ئاسو والأب فرهاد والأخ دلشاد والجار والسائق والصديق. ومحور هذه الحوارات يدور حول احتضار الجد ومرض الحفيد ئاسو وما بينهما الطائر الذي يشكل بؤرة سردية، حولها تتمحور الأحداث وتتأزم ثم تنفرج. والطائر من نوع القبج أهداه الجد للحفيد داخل قفص صغير وسماه ئاسوس فتعلق به ئاسو كثيرا وملأ عليه حياته. وحين مرض ازداد حبه له. وعلى الرغم من ذلك، فإن الابوين وجدا في ذلك الحب مشكلة. فلم يهتما لإشارات ابنهما الى ضرورة اطعام الطائر في حين انشغلا بالسفر الى اربيل من اجل رؤية الجد الذي يصارع الموت وتركا الطائر محبوسا بلا طعام بل إن اناء الماء سفحته الام بشكل غير ارادي بعد ان نهرت ابنهما ان يكرر اسئلته حول الطائر. وكانت تقسو في الرد على اسئلة الصغير بعبارات مثل (ياكل سم/ موتة جدي)
ويتولد عن ذلك صراع نفسي يجعل الطفل يكثر من الاسئلة مكترثا بوضع الطائر كما في هذا الحوار بين ئاسو وابيه: (بابا ئاسوس سينتفخ حتى ينفجر/ ينفجر؟ اهو بالون؟ / ينفجر من كثرة ما يشرب من الماء؟ / بالعكس يرتوي من الماء) وما أن تتذكر الام حوارها مع ابنها حتى تكتشف خطاها فتعترف بذنبها لكن بعد فوات الأوان.
وكان السارد خلال عرض أحداث الزمن الحاضر، يسترجع أحداث زمن في شكل استذكارات أو استبطانات نفسية تتخذ شكل شرود ذهني وموضوعها الحبس والاهمال ايضا. ذلك أن الجد كان سجينا في نقرة السلمان ست سنوات خرج بعدها بأمراض الرئة والروماتيزم وكسور الاضلاع كما ان ابنه فرهاد اُقتيد الى سجن الحلة المركزي حين كان طالبا في الكلية بسبب مشاركته في مظاهرة سياسية. وفي هذا الاسترجاع دلالة على ان السجن معادل موضوع للقفص وان الطائر هو معادل موضوعي للإنسان الذي من حقه ان يكون حرا وهو الحق نفسه الذي ينبغي ان تتمتع به عناصر الطبيعة من حيوان ونبات وجماد(بسط علينا حمايته وحنانه فحفر ذكراه في اعمق اعماق وجداننا فوق سفوحه وبين كهوفه ومغاوره عشنا ايام الرجولة وكان بيننا وبينه ميثاق الرجولة) ص75-76. وما بين عرض احداث الزمن الحاضر والزمن المسترجع تخترق التساؤلات الفكرية السرد بين الفينة والاخرى ممركزة وجهة النظر الايديولوجية المتمثلة في الحب بوصفه أساس الحياة وانه غير مقصور على علاقات البشر فيما بينهم، بل ايضا علاقاتهم بمن حولهم من كائنات حية ينبغي أن تكون لها في حياتهم مكانة وأن من واجبهم أن يؤدوا إليها حقوقها. ومما يؤخذ على الرواية الاغراق في استعمال الحوار الخارجي مع الاكثار من ذكر التفاصيل التي تثقل البناء القصصي وتؤثر في متانة الحبكة ناهيك عن اقتحامات السارد للأحداث توجيها ووعظا، وكان بالإمكان ترك مثل هذه التوضيحات كي يستنتجها القارئ بشكل غير مباشر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

الرسام والنحات جواد سليم

أهمية السيناريو في صناعة الفيلم السينمائي .. في البدء كانت الكلمة ـ السيناريو

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

مرآة لشُجيرة الظل

نقد العقل السياسي الشيعي العراقي

مقالات ذات صلة

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه
عام

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

د. نادية هناويكتب محيي الدين زنكنه المسرحية والقصة القصيرة والرواية والمقالة؛ وعنده الأجناس قوالب، مهمتها أن تساعد في توصيل الدلالات الثقافية والفكرية. ولقد مكَّنته موهبته الأدبية وثقافته ووعيه من أن يضع أجناس الأدب المختلفة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram