TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تهميشُ القضاء وتفكيكُ العقل الحقوقي للدولة وتقويضُ الهوية الجامعة

تهميشُ القضاء وتفكيكُ العقل الحقوقي للدولة وتقويضُ الهوية الجامعة

عواقبُ التعديل المُقتَرَح لقانون الأحوال الشخصية العراقي

نشر في: 19 أغسطس, 2024: 12:03 ص

فارس كمال نظمي

بدءاً، ولكي نبتعد عن الفهم الطوباوي لكيفية انبثاق القوانين، فإن تشريع أي قانون أساسي (أي مكمّل للدستور لكونه يتعلق بممارسة السلطة بنطاقها الواسع، كقوانين: الأحوال الشخصية، والانتخابات، والأحزاب، وتنظيم الحريات، والموازنات المالية، وتنظيم القضاء، والأمن والدفاع، وغيرها) إنما هو تعبير واقعي ومباشر عن أيديولوجيا مرحلة تاريخية معينة، وليس تعبيراً ذاتياً عن مزاج هذا الحاكم أو تلك السلطة.
وبمعنى أدق، فإن بنود أي قانون أساسي، ليست إلا النهاية اللغوية المعلنة لسلسلة طويلة غاطسة ومركبة من مصالح اقتصادية وايديولوجية واجتماعية ونفسية وبيولوجية تفاعلت جدلياً عبر الزمان والمكان لسنّ تلك البنود الحامية على نحو مباشر أو غير مباشر لمصالح المشرّع. أما السرمدية (أو الحيادية) الظاهرية التي تبدو عليها القوانين في لحظة التشريع، فلا يراد بها إلا تأبيد "شرعية" السلطة القائمة وتخليدها بوصفها الاحتمال "الوحيد" المتاح لتنظيم حياة الناس.
وتنطبق هذه الرؤية إلى حد كبير على مجريات النزاع الفكري والحقوقي الحالي في العراق بين دعاة تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وبين دعاة المحافظة عليه والدفاع عنه. فهذا القانون وبعد 65 سنة من تشريعه وإنفاذه أثبت إنه يتسم بقدرة مرنة هائلة على احترام العقائد الدينية الشخصية من خلال دمجها في إطارٍ دولتي موحد يتبع مبدأ المواطنة لا مبدأ التطييف. أما مسودة التعديل الجوهري للقانون، والمقدمة مؤخراً من نواب في البرلمان يمثلون توجهات إسلاموية مدعومة من مراكز قرار أساسية في المنظومة الحاكمة، فإن المقصود بها هو إعادة إنتاج المجتمع على وفق رؤية ثيوقراطية استعلائية محددة، تزدري محددات الطبيعة البشرية وتنكر التطور العقلاني لمفهوم الأسرة عبر التأريخ.
فبنود هذا التعديل المقترح تعني مثلاً – من بين أشياء أخرى كثيرة- تطبيق أحكام فقهية لا تميز بين سن البلوغ الجنسي Age of Puberty وسن الرشد العقلي Age of Majority (سن الرشد) إذ من البديهي علمياً إن النضج الجنسي أمر متمايز عن النضج العقلي. وهذا يعني شرعنة تزويج القاصرات في أعمار مبكرة -قد تصل إلى سن 9 سنوات- أي ممارسة الانتهاك الجنسي نحوهن ما دمن لم يبلغن سن الرشد بعد. يضاف إلى ذلك أصناف متنوعة من الانتهاكات التي ستمارس ضد المرأة في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة والإرث، طبقاً لمسودة التعديل هذه.
إن هذه المساعي المحمومة لتعديل قانون الأحوال الشخصية بهذا الاتجاه الاستبدادي، تعكس -قبل كل شيء- نزوعاً سياسياً لممارسة هيمنة ثقافية ذكورية على المجتمع، وتكريساً لقبضة الإكراه والتسلط والاستئثار، سعياً لتثبيت أركان الحكم الهش بأعمدة أيديولوجية "متينة". فالمروجون للتعديل يريدون إظهار الأمر كما لو إنه تفعيل ديمقراطي لحرية دينية يمارسها أتباع كل مذهب في أحوالهم الشخصية بشكل مجتزأ ومنعزل، مع تغافلهم المقصود عن النظر في العواقب الكلية لهذا التعديل وما سينتجه من اعتلالات دستورية وقانونية وقضائية واجتماعية ونفسية ذات طابع كارثي.
فهذا الترويج الانتقائي والتغافل العمدي يتفق في النهاية مع الوظيفة الهدمية التي دأب الإسلام السياسي الطائفاني على ممارستها في العراق، إذ سعى منذ عقدين من الزمن، وما يزال يسعى جاهداً لتقويض كينونة "الوطن – الدولة" التي لا تتفق مع بنيته الطارئية القائمة على إنتاج الانقسامات الإثنية والفساد السياسي والرثاثة السلوكية والأوهام الاجتماعية، ونهب المال العام، وتسويغ المظالم، وتبرير التفاوت بين الناس عامة وبين الجنسين خاصة.
إن إقرار هذا التعديل -في حال حدوثه- ستنتج عنه عواقب كثيرة آنية أو مستقبلية، من بينها ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر:

  1. العاقبة الدستورية:
    ستفقد الدولة مرجعيتها التنظيمية المفترضة في التعامل مع المواطنين في مسألة جوهرية تتعلق ببناء الأسرة ووظيفتها، إذ يتضمن التعديل الجديد تخيير الفرد المسلم في أحواله الشخصية بين اختيار القانون الحالي النافذ وبين التشريعات الجديدة المقترحة (المدونات الفقهية) المشتقة من المذهبين الشيعي والسنّي، واللذين بدورهما منقسمينِ إلى اجتهادات متباينة غير محسومة بين الفقهاء، فضلاً عن احتمالية تباين المذهب بين الزوج والزوجة.
    وهذا سيفضي بالضرورة إلى عدم المساواة في التقاضي ما دام تعديل القانون يشرعن لإمكانية الأخذ بالقانون الأصلي أو عدم الأخذ به بل الأخذ بمدونات مذهبية فرعية غير متفق أصلاً على مضامينها بين الفقهاء. وكل هذا يؤدي إلى تجزئة القضاء وتهميشه وتقليص صلاحياته رغم كونه سلطة الفصل القانوني الوحيدة بين المواطنين طبقاً للدستور العراقي النافذ، وبالتالي تفكيك العقل الحقوقي للدولة بوصفها راعية المجتمع والمنظمة لشؤونه، ومنح الفقهاء -من خلال الوقفين الشيعي والسنّي- سلطة موازية لسلطة القضاة ومتداخلة معها، وتسليم شؤون الأسرة إلى رجال دين تتنازعهم الاجتهادات الذاتية المستندة إلى نصوص ماضوية قيلت في عصور مندثرة. وكل ذلك يتعارض مع المادة 14 من الدستور العراقي الحالي التي دعت إلى معيار قانوني موحد يحتكم إليه الناس: "العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".
  2. العاقبة القانونية:
    إن مسودة التعديل ستقود في النهاية إلى شرعنة اغتصاب الأطفال واسترقاق النساء القاصرات والراشدات. وإذا كان مناصرو هذا التعديل يجادلون بأن الأحكام الجنسية الخاصة بزواج الأطفال والقاصرات لم تُشَرّعْ بغرض الإلزام وإن القانون الجديد لا يحث عليها أو يروج لها بل أوردها بغاية التنظيم وتبيان الحدود فحسب طبقاً لضوابط فقهية، فإن مجرد إتاحة المشروعية ولو لرجل واحد بممارستها إنما يعني الإباحة لممارسة حريات جنسية عدوانية مُدانة في العُرف البشري المؤنسن وفي المواثيق الدولية العابرة للمجتمعات، إلى جانب كونها تدخل في حقل الأمراض النفسية والجرائم الجنسية.
  3. العاقبة الدولية:
    يعدّ التعديل المقترح انتهاكاً لجملة من المواثيق والمعاهدات الدولية التي سبق أن صادق عليها العراق. وإن إقرار التعديل يعني تنصل العراق من التزاماته حيال المجتمع الدولي، وما يعنيه ذلك من انقلاب على الشرعة الدولية، ومن طعن في شرعية الدولة العراقية نفسها. فهناك إجماع عالمي على ضرورة منع الانتهاكات الجنسية للأطفال بكل أشكالها المباشرة أو الضمنية. فقد نصت المادة الأولى في "اتفاقية حقوق الطفل" الصادرة عن الأمم المتحدة 1990 والتي صادق عليها العراق 1994 أن "الطفل هو كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة". وحثت المادة 19 من هذه الاتفاقية الدول على اتخاذ "كافة التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية…بما في ذلك الإساءة الجنسية.."؛ فيما أوصت المادة 34 بأن: "تتعهد الدول الأطراف بحماية الطفل من جميع أشكال الاستغلال الجنسي والانتهاك الجنسي". أما "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" 1966 والذي صادق عليه العراق 1971 فنصت المادة 23 فيه على أن: "لا ينعقد أي زواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملاً لا إكراه فيه". وأوجبت "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" 1979 والتي صادق عليها العراق 1986 في المادة 16 منها أن: "لا يكون لخطوبة الطفل وزواجه أي أثر قانوني/ وللمرأة نفس الحق في عقد الزواج، وحرية اختيار الزوج، وفي عدم الزواج إلا برضاها الكامل".
  4. العاقبة النفسية-الاجتماعية
    إن إنفاذ التعديل المقترح يعني إن صدماتٍ نفسية وإضراراً اجتماعية هائلة ستلحق بأجيال من الأطفال والنساء -من المذهبين- ممن سيجري استرقاقهم وتهميشهم وهدر حقوقهم المدنية وكرامتهم الإنسانية، بسبب الزواج المبكر والانتهاك الجنسي المشرعن، أو بسبب ما سيعانونه من قهر وإذلال في حال تطبيق فتاوى ذكورية في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة وغيرها.
    كما سيمارس التعديل المقترح إخلالاً قصدياً بتماسك الهوية الوطنية بوصفها شرطاً جوهرياً للسلم الاجتماعي والنهضة الحضارية، إذ تدفع الفرد لتأسيس صورة ذهنية طائفية مغلقة لمذهبه أو دينه بمعزل عن مشاعر المواطنة والانتماء نحو بقية العراقيين. فأتباع كل مذهب أو كل ديانة سيترسخ في عقلهم الباطن أن الإله الذي يحكمهم هو غير الإله الذي يحكم غيرهم، ولأنهم متحيزون إلى أنفسهم أصلاً فهذا سينفي صفة القداسة عن مذهب الآخر وديانته، وفي هذا تكريس للتعصب والطائفية.
    وهذا يعني -عملياً- الارتداد من فكرة الدولة الوطنية الراعية لتساوي الحقوق بين المواطنين، إلى فكرة الدولة الطائفية الممزقة بفتاوى مذهبية متصارعة يتحول المواطن بموجبها إلى سلعة فقهية غير متساوية القيمة في سوق السلطة الدينية البشرية المتعكزة -زوراً-على مسميات إلهية. وبكلمة، يتحول الوجود الأسري والاجتماعي من عقد رضائي موحد بين مواطنين متساوين، إلى عقد قسري متباين التأويلات يديره رجال دين غرباء عن فكرة الدولة الجامعة.

أخيراً، فإن تحديدنا هذا للعواقب والاعتلالات التي ستنتج في حال نجاح مساعي الجماعات المتأسلمة لتعديل قانون الأحوال الشخصية الحالي، لا تعني إن هذا القانون لا يحتاج إلى مراجعة قانونية مستنيرة تستند إلى آراء خبراء أكاديميين في القانون والاجتماع والنفس والسياسة والفقه. فالعقود الستة التي أعقبت تشريع القانون سنة 1959 كانت حافلة بالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية العميقة، وبالتغيرات الثقافية والتكنولوجية السريعة العابرة للبلدان، وما رافق ذلك من مستحدثات في السيكولوجيا البشرية والمنظومات القيمية والتصورات الدينية على مستوى الفرد والأسرة على حد سواء.
وكل ذلك يستدعي تطويراً علمياً ضرورياً مدروساً ومتريثاً للقانون الحالي بما يتلاءم مع كل تلك المستجدات، ولكن مع المحافظة عليه ضمن إطار المواطنة المتساوية المستندة إلى سلطة الدولة صاحبة الحق الوحيدة في تشريع وإنفاذ القوانين على نحو موحد بين الناس بوصفهم مواطنين لا أتباع طوائف؛ وليس سلطة جماعات ما قبل الدولة ممن صار يترتب عليهم اليوم اللحاق بالتقدم البشري الحقوقي والتفاعل الفقهي المستنير معه، لا عرقلته وسحبه إلى الخلف بسرديات التنازع على "أحقيات" متوهمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

العمودالثامن: ماذا حدث للمثقفين؟

بحث في إشكالية الزواج من ذوات التاسعة

العمودالثامن: داعية البسمة

 علي حسين قبل ما يقارب السبعين عاماً تقدم الفتى النحيل لدخول معهد الفنون ، لم يكن يرغب أن يصبح ممثلاً ، فقد جرب ذات يوم أن يمثل دور عنترة في إحدى المسرحيات المدرسية...
علي حسين

باليت المدى: جمال من نوع خاص

 ستار كاووش كان عليَّ الذهاب الى متحف لام الذي يقع على أطراف مدينة ليل، خرجتُ مبكراً في الصباح كي أستثمر كل وقتي، وركبت المترو الذي كان عليَّ أن أغيره بعد ست محطات، لأكمل...
ستار كاووش

تهميشُ القضاء وتفكيكُ العقل الحقوقي للدولة وتقويضُ الهوية الجامعة

فارس كمال نظمي بدءاً، ولكي نبتعد عن الفهم الطوباوي لكيفية انبثاق القوانين، فإن تشريع أي قانون أساسي (أي مكمّل للدستور لكونه يتعلق بممارسة السلطة بنطاقها الواسع، كقوانين: الأحوال الشخصية، والانتخابات، والأحزاب، وتنظيم الحريات، والموازنات...
فارس كمال نظمي

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 2)التجربة الصينية عرضت مؤخرا التجربة البريطانية في التعليم، والتي يتميز نظامها بتعليم الطلاب المهارات الأساسية والتركيز على التفكير النقدي وحل المشكلات والتعلم التعاوني والتقييم المستمر وخلق بيئة محفزة للعمل (مصدر 1)....
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram