TOP

جريدة المدى > عام > فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

نشر في: 19 أغسطس, 2024: 12:02 ص

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
(1-3)

  • الى: وليد داود
    كتبت كثيرا عن عمارة مساجد اسلامية شهيرة ومؤسسة، هي التى استطاعت بحلولها التكوينية- الفضائية اللافتة ان تكشف ببلاغة عن القيم التصميمية للعمارة الاسلامية وترسخ أهميتها المعمارية في مشهد البيئة المبنية حيث تتواجد. وفي هذا السجل الوافي والمتنوع، أوليت عناية مركزة وخاصة الى عمارة "مسجد قرطبة الكبير": المسجد المشيد على مراحل بالعاصمة الاندلسية في شبه جزيرو ايبريا. وكنت اعزو تلك العناية الفائقة التى اصبغتها على عمارة المسجد الاندلسي الشهير لاسباب عديدة، كان من ضمنها بالطبع وضوح الرؤى التصميمية وفرادتها وتميزها وقيمة المبادئ الاستثنائية المكرسة في صميم الحل التكويني فضلا على حذاقة العمل التنفيذي ورحابة ووسع الحدث التصميمي وأهميته الخاصة في المشهد الحضري للحاضرة الاندلسية. بيد اني رغم ولعي وشغفي العميقين فيما انتج من مآثر معمارية على الارض الاندلسية، لم يتسنَ لي زيارة هذا المسجد الرائع والمهيب ومشاهدته ميدانيا وحضورياً رغم اني زرت مواقع كثيرة اندلسية آخرى. وظلت زيارة قرطبة "والتبرك" برؤية مسجدها الميمون عصيـّة على التنفيذ لفترات طويلة ولحين تحقيقها حديثاً، حيث " تَكَحَّلَتْ" عيناي، اخيراً، برؤية <المسجد> والتعرض لاحساس رائع وغريب في آن، وانا اقف في صميم دواخل حيزه المكاني! حقا انه لحدث اسثنائي: شديد التأثير، ذلك الشعور الذي احسست به، واخال انه مدرك ومحسوس من قبل اولئك الزائرين الكثر للمسجد بغض النظر عن جنسياتهم واثنياتهم وما يعتنقون من اديان! وليس في النية، هنا، الافاضة في ذكر المعلومات العديدة والدقيقة الخاصة بعمارة المسجد (.. فهي متاحة لدى العديد من المصادر المنشورة، بضمنها كتابي: "رؤى معمارية" الصادر في بيروت – عمان في سنة 2000، والذي تحدثت باسهاب عن جدارة وتميز ورائدية القيم المعمارية ومغازيها التصميمية المرتبطة بظهور هذا المبنى الجليل)، وأنما ساهتم، هنا، في تكثيف دلالات الاحساس وادراك ذلك الشعور الخاص والهنئ المتفرد (و..الممتع ايضاً) الذي لا ينسى، والذي كنت تحت وطأة تأثيره العميق وانا.. في "حضرة" المكان! لكني، كمعمار، لا يمكنني عدم التطرق عن بلاغة نوعية وقيمة المبادئ المعمارية المتضمنة في القرارات التصميمية للمسجد العتيد والاشارة اليها، كاحدى تمظهرات خصوصية العمارة الاسلامية وبواعث نجاحاتها!
    من المعروف ان الحل التكويني لمسجد قرطبة، يعتمد على حضور مفردتين اساسيتين وهما: فضاء الحرم و"فضاء" الصحن. وبهذا فان اسلوب الحل التكويني للمسجد يكرر ما تم تطبيقه سابقاً في اساليب حلول تصميمية لمساجد اسلامية عديدة؛ ذلك الاسلوب الذي سيدعى <اسلوب المساجد ذات القاعة المعمدة (من الاعمدة)>. هكذا كان الحال في مسجد الكوفة (636 م.) وقبله في مسجد البصرة (635م.)، ومسجد القيروان بتونس (670م.)، ومسجد واسط (702 -703 م.)، وطبعا "مسجد دمشق الكبير "مسجد الوليد" (705 – 715 م): <درة> المنجز المعماري الاسلامي واحد نماذجها التصميمية الرائدة. بل ويمكن القول ان "عرفاء" قرطبة (وهي لفظة دارجة للمعماريين في الاندلس!) عندما خططوا مسجد قرطبة مابين (786- 788 م.) <الذي امر ببنائه (صقر قريش): "عبد الرحمن بن معاوية بن هشام" (731 -788م.)، على انقاض المسجد العتيق الذي شُيّد ابان الفتح>؛ كان الحل التكويني له يماثل بشكل وبآخر اسلوب مساجد القاعة المعمدة اياها، بل وكانت رغبة الامير ذاته، على وجه الخصوص، تشي باستحضار "اميج" مسجد اجداده بدمشق لتكون حاضرة بقوة في تكوينات المسجد الجديد، هو القائل (نقلاً عن المقري في "نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب")، عندما شاهد نخلة مغروسة في منية الرصافة فتذكر وطنه وقال مرتجلاً:
    تبدت لنا وسط الرصافة نخلة – فقلت شبيهي في التغرب والنوى
    نشأت بارض أنت فيها غريبة – تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
    وطول التأني عن بنيّ وعن أهلي- فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

ثمة "فاصل" يخلقه جدار سميك محفوره به بوابات ضخمة، تسمح بالعبور من صحن المسجد الى حرمه، يكاد يكون دوره المعماري موارباً ومتناقضا في آن. فحضوره التصميمي القوي في الحل التكويني، يراد به إظهار الاحساس بـ "الاتِّصَال " مثلما الرغبة بحدوث الشعور بـ "الاِنْفِصال"! فعنده <ينتهي> فضاء الصحن الملئ بالضياء، الوافر بالفعاليات النشطة لـ "يبدأ" عنده، أيضاً، فضاء الحرم الطافح بظلمة خفيفة تبعث على السكون والصفاء. وخلف هذا الجدار يتبدى ثمة "فضاء" نادر واستثنائي بقيمته المعمارية، سيشكل مفاجأة تصميمية غير متوقعة لزائر المسجد. ففي ذلك الحيز المحصور بين جدران المسجد، سيسعى "عرفاء" قرطبة المبدعون وراء اجتراح فضاء مميز يكون من ضمن مهامه تكريس قيم العمارة الاسلامية ورؤاها، تائقون، في الوقت نفسه، الى تجسيد مبادئ ومعايير تلك العمارة وحتى حدوسها ابتغاءً للافصاح عن امكاناتها وتبيان قدرتها في إرساء لغة تصميمة لافتة ذات تشكيلات خاصة وغير مسبوقة للفضاء المحصور. ثمة "سردية" تصميمية استطاع المعمار القرطبي ان يبدعها اتساقا مع فهمه وادراكه العميقين لفقه العمارة الاسلامية واستيعاب مبادئها التصميمية. ذلك لان نوعية الفضاء المبتدع وطبيعته ليست فقط لا تتماثل مع الشائع البنائي الذي يذهب بجذوره الى التقاليد البنائية المحلية وحتى الوافدة اليه مع وفود "هجرات" الاقوام الاوربية من جهة الشمال، وإنما عدت "مقاربتها" التصميمية نادرة واستثنائية وحتى "مختلفة" عن السياق العام.
يزخر "حرم" المسجد: حيز الفضاء المسقف فيه، بمفردات تصميمية تستدعي اشكالها "صورة" غابة كثيفة مزروعة بالاشجار (..مزروعة بالنخيل على وجه الدقة!). ويماثل نمط "تجميع" تلك المفردات في الحيز الداخلي للمسجد، طريقة "نمو" اشجار النخيل والبرتقال المغروسة في الصحن المكشوف من المسجد، ذلك "الغرس" الرائد في نوعه الذي بدأه يوما ما "عبد الله بن صعصعة" صاحب الصلاة بقرطبة، وأمسى تقليداً محبباً ومتبعاُ في غرس "افنية" المساجد الاندلسية منذ ذلك الحين.
ثمة "تركيبة" انشائية متفردة (.. وهي بارعة ايضاً!) تتمظهر بجلاء في اسلوب الاعمدة الحاملة للتسقيف وفي خصوصية عقودها المزدوجة ذات "الصنجات" الشريطية الملونة المشغولة بمواد مختلفة. وهذة "التركيبة" اللافتة هي التى اكسبت عمارة المسجد خصوصيته مكرّسة بذلك فرادته التصميمية! نحن، اذن، امام حل تكويني، استطاع المعمار به ان يسمو بالمداخلة "التكتونية" Tectonic (وهي مداخلة معنية في توظيف الانشاء لاحراز قيم جمالية)، لتضحى لديه وسيلة ناجعة في تكثيف الجانب الفاتن لعناصره المستخدمة.
وكما اشرنا، فان مسجد قرطبة الذي انشأ مابين (786 -788 م.)، تعرض لتوسعات عديدة. ففي اثناء حكم الامير عبد الرحمن الثاني (الاوسط) في سنة 848 اضيفت 8 اساكيب الى بيت الصلاة من جهة الجنوب. كما شيد الامير عبد الرحمن الناصر صومعة "مئذنة" المسجد في عام 951 م في الطرف الشمالي الغربي وهي بارتفاع 40 متراُ. كما اضاف ايضاً الى بيت الصلاة توسعة جديدة في عام 961 باشراف ابنه الحكم "المستنصر"، حيث اضيف 12 اسكوبا بمسافة تقدر بـ 35 مترا الى الجنوب لتصل الى قرب من الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، وعمل محرابا جديدا للمسجد عُدّ من اهم منجزات العمارة الاندلسية. وختم تلك التوسعات المنصور محمد بن ابي عامر الذي كان يحكم باسم الخليفة هشام المؤيد، باضافة توسعة مهمة وكبيرة عام 987 م. على امتداد طول المسجد من الجهة الشرقية له، جاعلا ابعاد المسجد الجديدة تقدر بـ 125 × 180 مترا، وبهذة التوسعة (وهي الاخيرة)، فان قاعة الصلاة احتوت على 19 رواقا و35 أسكوباً موازية لجدار القبلة؛ مما جعل بيت الصلاة في مسجد قرطبة ليكون من اوسع بيوت الصلاة قاطبةً في كل المساجد الاسلامية التى شيدت في جميع ارجاء العالم الاسلامي.
ومن المحتمل جدا، كما يشير الى ذلك "حسين مؤنس" في كتابه <المساجد> المنشور عام 1981، بان ظهور العقود المزدوجة التى اتسمت بها عقود بيت الصلاة كانت اثتاء توسعة عبد الرحمن الاوسط سنة 848 م. وعن تلك العقود المزدوجة وقيمتها التصميمية، كتبت يوماً عنها مايلي ".. لقد أختير لأعمدة بيت الصلاة مقطع رفيع لا يتجاوز قطره عن 25 سم، مقارنة بالمجال الخالي بينهما. ووضعت هذة الأعمدة بعيدة نسبياً الواحدة عن الأخرى. وبغية الحصول على متانة انشائية لرفع سقف السطح العالي (حوالي 9 أمتار)، مع الحفاظ على استخدام مقاطع الأعمدة الدقيقة، فان معماريي المسجد لجأوا الى ربط هذة الأعمدة الواحدة بالأخرى بواسطة عقود فوق هذة الأعمدة، ووضعت سنجات الأعمدة أخرى ربطت بدورها بطبقة أخرى من العقود الحاملة والساندة لسقف خشبي. وبين الصفين الاسفل والأعلى من هذة العقود، يوجد فراغ، بحيث أن الأقواس السفلية تخترق الفضاء وحدها بحرية. ونتج عن كل هذة المعالجات التى تقصدها المعمار بكثير من الفطنة والإبداع، تمثيل لذلك التوق التصميمي الواسم لخصوصيات العمارة الاسلامية والمُتبدّي في شغف "عرفاء" المسجد ورغبتهم الراسخة في تأكيد سيطرة <الفضاء> وسيادته على كتل العناصر الإنشائية". (خالد السلطاني، رؤى معمارية، بيروت 2000، ص. 53)؛ جاعلين من "حدث" ذلك <التأكيد> وتلك <السيطرة> حجةً ودليلاً عن خصوصية عمارة المسجد، وتفردها التكويني عن سياق نوعية العمران القديم الحافلة بها البيئية المبنية المحيطة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الرسام والنحات جواد سليم

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

معضلة الذكريات الرقمية صوفي مَكْبين*

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

مقالات ذات صلة

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ
عام

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديمي(1-3) الى: وليد داودكتبت كثيرا عن عمارة مساجد اسلامية شهيرة ومؤسسة، هي التى استطاعت بحلولها التكوينية- الفضائية اللافتة ان تكشف ببلاغة عن القيم التصميمية للعمارة الاسلامية وترسخ أهميتها المعمارية في مشهد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram