TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تأملات حول دور الرأي العام في النظام الديمقراطي

تأملات حول دور الرأي العام في النظام الديمقراطي

نشر في: 20 أغسطس, 2024: 12:03 ص

د. فالح الحمـراني

سن مجلس النواب أو بطريقه لسن لاحقا قوانين يعارضها الرأي العام العراقي بشدة، في مختلف دوائره الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية /العلمية، نساء ورجالا وشبابا، إلا إن المجلس الموقر يصر على تجاهل موقف الرأي العام، ولا يحفل به بتاتا، مناقضا بذلك اهم بند من بنود النظام الديمقراطي (ودستور العراق في آن واحد) الذي يكرس السلطة للشعب وصب القوانين في صالحه وليس لخدمة طائفة أو شريحة أو حزب أو لميوله، وان تأخذ القوانين الأهداف الاستراتيجية للبلد، وأن تتوفر أساس مقنع لتبنيها، إن هذا السلوك يؤكد الانطباع السائد بان النخب التي تتمسك بمفاصل الحكم في العراق تتعامل مع المبادئ الديمقراطية وآلياتها المتعارف عليها بصورة شكلية، بصورة منافقة، وانها تتخذها وسيلة لتحقيق غاياتها، التي كثيرا ما تتناقض والقضايا الحيوية بل والوجودية للعراق ووحدته الاجتماعية وسيادته وديمومة بقاءه.
ومن الواضح أن المحتوى الحقيقي للديمقراطية في العراق لا يتوافق مع شكلها المعلن، ولا يلعب الرأي العام دور البنية الفوقية التي تحل محل العقيدة وتضمن استقرار مثل هذا النظام.
وتتمثل وظائف مؤسسات الديمقراطية المشوهة في ضمان هيمنة، النخب الحاكمة وضمان امتيازاتهم، وإخفاء هيمنتهم، وتعزيز مصالحهم، إن هذه الديمقراطية، هي التي تجسدت بالفعل في حالتها العراقية. ويمكن الحكم على ذلك من خلال مجمل العديد من الحقائق التي تجلت في الفضائح المالية المروعة ومواجهة الاحتجاجات المشروعة بقوة سلاح مليشيات غير قانونية والخطف ونيل حقوق المواطن وغيرها.
ومع ذلك، فإن الديمقراطية باعتبارها القوة الفعلية للشعب ولكل شخص على حدة، والقائمة على أساس مبادئ التنظيم الذاتي والمسؤولية والوصول المتساوي غير المحدود إلى المعلومات والمعرفة، هي نظام الحكم الوحيد القادر على تلبية مصالح الأغلبية في البلاد. السكان بأغلبيتهم، وليس فئة ضئيلة منهم.
في الوقت الحالي، يعتبر النظام الذي يتجسد فيه حق الناس في المشاركة في الشؤون العامة بشكل أساسي ديمقراطيا. ولكن يجري تنفيذ تلك المبادئ والقيم التي تتميز بها الديمقراطية بصورة غامضة، وأحيانا تفضي إلى نتائج تتعارض بشكل مباشر مع جوهرها. وهناك تناقضات كبيرة بين المضمون والتنفيذ الفعلي لمبادئ المساواة والديمقراطية وسلطة الأغلبية على الأقلية، والحرية، والشفافية، والانفتاح. ووراء الشكل الخارجي الجذاب للديمقراطية باعتبارها " سلطة الشعب"، يختفي في الواقع محتواها الداخلي المحزن والمخيف أحياناً. وهذا ما يحدد ضرورة إجراء تحليل عميق لأسباب هذه التناقضات وإعادة التفكير في معنى مبادئ وقيم الديمقراطية، لتطوير فهم أكثر ملاءمة لواقع الحياة الحديثة كشكل من أشكال الديمقراطية للحكم تاريخ طويل وقد ورد ذكره في نصوص العصور القديمة. ولأول مرة، تجسدت الديمقراطية بدرجة أو بأخرى في أثينا القديمة. قدم المفكرون القدماء مثل أفلاطون وهيرودوت وبروتاجوراس وديموقريطس وأرسطو مساهمة كبيرة في تطوير نظرية الديمقراطية. كان المؤيدون الرئيسيون للديمقراطية هم السفسطائيون، الذين عرّفوا الديمقراطية بأنها النظام السياسي الصحيح الوحيد للمجتمع.
لقد اعتقدوا أن رأي الأغلبية أهم من رأي الأقلية، وبالتالي يجب أن تكون السلطة ملكا للشعب. ومع ذلك، لم يكن كل المفكرين القدماء يرون أن الأغلبية يجب أن تحكم. كتب أفلاطون في كتابه "الدولة" أن الديمقراطية هي قوة الفقراء وأن الديمقراطية المفرطة تؤدي حتماً إلى الطغيان. وفي رأيه، لا ينبغي للجميع أن يحكموا، ولكن فقط الأكثر حكمة، أي الفلاسفة. وخلال عصر التنوير، ساهم باحثون مشهورون في ذلك الوقت مساهمة كبيرة في تطوير فهم الديمقراطية: بنديكت سبينوزا في عمله "رسالة سياسية"، وجون لوك في "مقالة عن الفهم الإنساني"، وتشارلز لويس مونتسكيو في كتابه "مقالة عن الفهم الإنساني"، و"في روح القوانين"، وجان جاك روسو في أطروحته "في العقد الاجتماعي، أو مبادئ القانون السياسي"، وما إلى ذلك. وكانت الفكرة الرئيسية لهؤلاء المفكرين هي أن جميع الناس بطبيعتهم أحرار ومتساويون ومستقلون وبالتالي لا يمكن لأحد أن يخضع للسلطة السياسية لأشخاص آخرين دون موافقتهم. والنظام السياسي القادر على ضمان هذه المبادئ هو النظام الذي تتمتع فيه الأغلبية بالسلطة. وقد نشأت هذه النظريات وتطورت مع انهيار الملكية الأرستقراطية وظهور المجتمع البرجوازي. وكان هدفهم العملي هو تشكيل رأي عام بين السكان بصدد ضرورة التغيير لصالح حريتهم والمساواة. وتحت شعارات الإصلاحات الديمقراطية الليبرالية، جرت العديد من الثورات البرجوازية، التي أدت في هذه البلدان ليس فقط إلى تغييرات ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية، ولكن أيضًا وإلى فقدان سيادة الدولة ومواقعها على الساحة الدولية، وفي بعض الحالات، إلى انتهاك السلامة الإقليمية.
إن إحدى مشاكل الديمقراطية التي تتطلب دراسة معمقة، تتصل بتطبيق سلطة الشعب عن طريق انتخابات مجالس الإدارة. وفي الوقت ذاته، إن كيفية تشكيل الخيار السياسي لكل مواطن وسبب تشكيله وبلورته، ينطوي على أهمية كبيرة. ويستند كل مواطن في التعبير عن أرادته إلى تصوره للعالم، أو للعمليات السياسية التي تجري في البلد، أو للرأي العام السائد، أو لشخص سياسي. وتتشكل هذه التصورات من مصادر مختلفة، لكن المصادر الرئيسية للمعلومات هي وسائل الإعلام، التي يصعب المبالغة في تقدير تأثيرها. نظرا للتأثير القوي على وعي عدد غفير من المواطنين، وتستخدم بعض القوى السياسية وسائل الإعلام كأداة للتلاعب بالوعي العام (الجماهيري).
ويهدف التلاعب بالوعي إلى خلق الظروف للتحكم في سلوك الناس. وتتمثل هذه الشروط في تكوين مثل هذا الرأي العام، الذي بفضله يمكن إجراء تحولات سياسية محددة. ولتنفيذ ذلك، تقوم وسائل الإعلام بعزل السكان عن الأحداث والظواهر الواقعية التي تحدث بالفعل. وهناك الكثير من التقنيات المعروفة، والتي بفضلها تشوه وسائل الإعلام الواقع القائم وبالتالي تشكل في أذهان السكان فكرة مشوهة عن العمليات الجارية وعن صورة العالم ككل. ومن بينها ما يلي: قمع أي حقائق؛ تمجيد الحقائق الأقل أهمية على حساب الحقائق الأكثر أهمية؛ نقل حقيقة معينة إلى المجال العام؛ التكرار المتكرر استخدام الاقتراح؛ واستخدام الشائعات والتكهنات كحقائق موثوقة؛ استبدال الحقائق بالأباطيل.
إن الشخص الذي لا يستطيع الوصول إلى المعلومات والمعرفة الموثوقة، والذي يقع في قبضة المفاهيم الخاطئة والقوالب النمطية والأحكام المسبقة، لا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح. لذلك، على سبيل المثال، كما كتب كما قال أحد الكتاب عن هذا: "… لاتخاذ خيار واعي، هناك حاجة إلى المعرفة. ليست معرفة سطحية وجزئية، بل معرفة عميقة. إن الدعوة إلى "الاختيار بقلبك أو بإيمانك" تشير إلى أن منظمي الانتخابات يدركون نقص المعرفة بين الناس. بدون المعرفة، الاختيار مستحيل. لا يمكنك اختيار الدواء إلا إذا كان لديك المعرفة المناسبة. ومن المستحيل الاختيار على أساس جمال العلبة، لأنه سيكون اختيارا للتغليف وليس اختيارا للدواء الشافي".
وفي غياب الوصول المتساوي وغير المحدود إلى المعلومات والمعرفة، فمن المستحيل بناء مجتمع عادل من الناس الأحرار والمتساوين. إن إرادة الشعب، المشروطة بأفكار حول واقع غير موجود، لا يمكنها أن تعبر عن مصالحه الخاصة. كتب الكاتب والعالم السياسي الأمريكي والتر ليبمان، بعد أن أدرك المشاكل الواضحة للديمقراطية: "… إن حماية مصادر الرأي العام هي المشكلة الأساسية للديمقراطية".
وعلى هذا النحو فان التلاعب بالوعي ممكن فقط في حال إن أن المتلاعب به لا يخمن إن وعيه يتعرض للتلاعب، ويجب إخفاء أنشطته تماما. الديمقراطية نظام يصعب فيه فهم من هو موضوع الحكم ومن المسؤول عنه. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن "الجسر" الرئيسي بين الحكومة والمجتمع هو وسائل الإعلام، التي لا تقوم بتصفية تدفق المعلومات فحسب، بل تحد أيضا من الوصول إليها. وفي غياب فهم واضح مَن الذي يخضع للإدارة، فمن الصعب تحديد مَن يتحمل مسؤوليتها. وكتب الفيلسوف والكاتب ورجل الدولة الأنجلو أمريكي توماس باين: "إن أفكاري حول شكل الحكومة مبنية على قانون الطبيعة، الذي لا يمكن لأي تعقيد أن يهزه، أي أنه كلما كان الشيء أبسط، كلما كان من الصعب إفساده". ومن الأسهل تصحيحه.. فالمَلكيات المطلقة (رغم أنها أنظمة بالية ولا إنسانية) تتميز بكونها بسيطة. إذا كان الناس يعانون، فإنهم يعرفون من هو مصدر معاناتهم، ويعرفون أيضا العلاج ولا يضيعون في مجموعة متنوعة من الأسباب والعلاجات العلاجية. ولكن الدستور الإنجليزي معقد إلى الحد الذي يجعل أي أمة قد تعاني لسنوات دون أن تتمكن من اكتشاف مصدر متاعبها. سيجده البعض في واحد، والبعض الآخر في آخر، وكل طبيب سياسي سوف ينصح بدواء مختلف".
وفي العالم الحديث، وتحت ستار الديمقراطية يجري إخفاء عنف سلطة النخب ومن يدور في بيئتها الفاقدة للمسؤولية والتي تفلت من العقاب المشروع، وتصادر ثروات الشعب وكدحه عن طريق التلاعب بوعي السكان. في مثل هذا النظام، كقاعدة عامة، لا توجد عقيدة تعمل على توحيد القوى الشعبية لتحقيق أهداف مشتركة. إن الديمقراطية في هذه الحالة تكون تعبيرا سياسيا عن مصالح النخب المالية والسياسية والحاكمة، ولكن ليس المجتمع بأكمله، وكقاعدة عامة، تتعارض مع مصالحه. ويلعب تكوين رأي عام إيجابي حول النظام السياسي والبنية الاجتماعية والاقتصادية للدولة دوراً رئيسيا في ضمان استدامة نظام الحكم الديمقراطي. مثل هذا التلاعب بالرأي العام يحل بطريقته الخاصة، محل العقيدة. كما في رأي المؤلف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

بحث في إشكالية الزواج من ذوات التاسعة

تهميشُ القضاء وتفكيكُ العقل الحقوقي للدولة وتقويضُ الهوية الجامعة

العمودالثامن: ماذا حدث للمثقفين؟

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

تأملات حول دور الرأي العام في النظام الديمقراطي

د. فالح الحمـراني سن مجلس النواب أو بطريقه لسن لاحقا قوانين يعارضها الرأي العام العراقي بشدة، في مختلف دوائره الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية /العلمية، نساء ورجالا وشبابا، إلا إن المجلس الموقر يصر على تجاهل...
د. فالح الحمراني

فشل المشروع الطائفي في العراق

محمد حميد رشيد منذ حدوث التغيير الأكبرفي العراق عام 2003م ولغاية اليوم على يد قوات التحالف وبقيادة الأمريكان ومنذ تأسيس المشروع السياسي الأمريكي في العراق بقيادة (برايمر) الذي اسس مجلس الحكم العراقي يوم 13...
محمد حميد رشيد

حوارات مع صحافي ناشئ

عبد الكريم البليخ صحافي ناشئ شديد الحماس لمهنته التي يعشقها حتى الثمالة حاور عدد من المواطنين من مستويات مختلفة فكرية وثقافية متباينة، عن كيفية قضاء إجازاتهم السنوية؟ وكيف رأوا هذه التجارب في الحياة؟ وهل...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram