طالب عبد العزيز
من مكانك في القبو، وقد أضاءَ الفانوسُ جبهتك، وشيئاً من ذراعك، كانت الأرفف من حولك فارغة، كيف لا وقد قضت الأيام بينك والاشياء، وأخذت صحفُ الغابرين أخبارك الى البدايات التي لا أوبة منها، مرادك في العدم والغياب، ووقوفك في النأي خير من وقوفك على الآماد. من مكانك ذاك جلست ترصدُ الذاهبين الى أشيائهم، فيتوقف هذا مع ذاك، ويغادر ذاك الى أولئك، وما الذاهبون بأقل من الآيبين، ولا الحاضرون بأكثر من الغائبين، كانت الطرق تزدحم بهم جميعاً، وكنت الوحيد بلا أشياء، صامت، ويقينك لا يحدُّ، وعارف بما يؤول اليه هؤلاء وأولئك. لا تحفل بما عاد بعضهم به، ولا يحزنك ما أضاعَ الآخرون منه، لا لأنَّ ما تدّخره أكثر، ولا لأنه ينفد في المفازات، إنما لأنك ما يجنون وما يفقدون في آن!
كان عليك أنْ تعبرَ الشارع باكراً، لتبدوَ الشجرةُ خلف المظلة يائسةً، حزينةً، أو حمراءَ أكثر، أتعلمُ لماذا لا تشبهُ الحَلَمَةُ بندقةً في الليل؟ لقد مات الذي كان يعقدُ القرائنَ البليدةَ تلك، ترك أسلابه للحائرين، ومضى، يفتش في الاتربة عن سبب لمن قالَ مهم بين الأخصاص، وما هم بقائلين ولا قائلين..
كم سيبدو مطمئناً، من يملك الوقتَ لتقشير بندقةٍ آخرَ الليل، وكم سيطول نهارُ من لا ينتظر أحداً؟ وهل كان القطارُ الأخيرُ القطارَ الأخيرَ في الرابعة فجراً!! ما أنت بعابر قنطرة لتصل، ولست بائعاً لأمل فتربح، ولا حزيناً مفؤوداً فتقطرُك أمراةٌ على كتفها حتى السرير.!
لو أنَّ الشرفة ما زالتُ ببنفسجها ذاك، لخلعَتِ الصَّبيّةُ عن الخشبِ حياءَه القديم، ولتكشّفَ عيبُ الآجرِ عن ملاط أسود ودهانٍ أقلّ، حيث لا أحدَ يفتقده ولا أحد يمسك به. ترى، لمن تصطفقُ الأبوابُ في أويقات ما بعد الظهيرة، وأين سيكون مقيلُ العائدين من التوت والجلنار؟ أفي العتمة ما نهمله، ونضيعه تحت السلالم، ثم نخرجه تحت الشمس، ونسميّه خزائن المعنى؟ أكلُّ الذي نضعه في الأصيصِ الأبيض ودٌّ وأفوافُ ورد؟
الأسوأ من النسيان هو التذكر. غليظٌ، ولا نحاول له نهايةً صمتُ الذين تواتروا في السؤال.
كان الغيابُ مادةَ البكاء ولم يزل، وكانت الدموعُ مخاضةَ العين والفراق، وكانت الاردافُ قطناً وما يتشكل في الدمى البليدة حتى نزلت سورةُ حضورك..
قبل سروالك الجينز ما كانت الجغرافيا هكذا! ولم تكن التواريخ.. هناك من تجتازُ المحيطَ الى الأزرقِ بقميصها، وهو يقترب، وهو يبتعد أيضاً. لا من ماءٍ يتنزل، ولا تكسّرُ أبارقِ عطرٍ هذا الذي يتقلبُ في الضوء عنك ويشفُّ. مُجتزأةٌ كلُّ الخرائط الى جسدك..
جوهرُ الفقد ألّا تترك امرأةٌ حقيبتها على طاولتك، تجرّعْ كأسَ الانتظار، نادرون، ومعاصمهم شاغرةٌ، لكنهم أقلنا حيلةً، أولئك الذين تنابوا النوم على المصاطب في المحطات..
أكلُّ الشوق هذا في قميص؟ واِلى أيِّ خليجٍ تنتمي هذه الخَلجات؟ وحتى مَ توطئُ سريرَك لكلَّ فجر أيها الغريب؟ هناك من سخّفَ الحياةَ أمامنا أكثرَ من مرة، فيما نظنّها ممكنة.
من القسوة ألّا أحدَ يُخبرك عن سحّاب سروالك المفتوح، ومنها أيضاً، أنْ يجيئوك أحدُهم بحقيبتها، عاطلة الاقفال، شاحبةَ في التسميات..
أنفاسي التي لا أقوى على استرجاعها، هي ما أتحدث عنه. اللحظةَ الخائنةَ في سماء القول ما أريد! أمّا أنت أيّها المتوحد في عُطلِ المعنى، المستغرقُ في التفاصيل، صديقي، يا من تقاسمني المصطبة منذ الليل، ما أكثر ما يشغلني عنك، بل، وما أبلدَك في الحلم..
كنتُ الهامشَ الذي أهمل قراءته العارفون، حتى تطاولتُ في الحروف، ولي في الأسباب ما يعجزها. بغضائي التي لا استحضرها لا استحضرها، ومنذ عقود ست قتلت ذئابَ سواي، فأنا في حقول الضوء أكثر مني في حقول التردد، أضع قدمي حيث أردتُ، ولا تقودني عصاي، أنا عوسجة ظلماتي، على كل جادَّة الى الليل. كلُّ قبّرة لا تفزعني، هلال مئذنة قلبي لا يغيبُ، والى حيث أتوجّه بأضلعي أجابُ.. كلماتي ما أحبّرهُ على الاسيجة، هي ما يتبرعمُ في الضوء والفسائل، وما يتأوبُ الغرباء به.
أنّى لها الوسائدَ حروفُ أسمائِك المبعثرةُ على الطريق، أنّى لها.. تلك التي قُيّضَ لها أن تكون المصابيح.
لا أهلكَ اللهُ البنفسجاتِ، كنَّ صويحباتِ قميصِك، هذا الذي تشاطره العصافيرُ بهجته في الشرفات، وعلى الحبال، حيث الريح بلا وجهةٍ هناك. هذا لا يعني أنني لنْ أصطحبَ الغضبَ الى سريرك، لكنني، سأترك أصيصَ غيابك نائماً، لنْ أوقظه ما حييت، موقناً بأنه سيرِدُ عليَّ ظامئاً ذات يوم.