TOP

جريدة المدى > عام > وجهة نظر: الأدب وحدوده المحلية

وجهة نظر: الأدب وحدوده المحلية

نشر في: 21 أغسطس, 2024: 12:33 ص

د. قحطان الفرج الله
يُكتب الأدب من أجل الإنسان، بلا قيود تحد من حريته. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية الأدب المحلي، لكن كلما غرق الأديب في محليته الضيقة، بات عالقًا داخل حدود قريته أو مدينته، غير مدرك للعوالم التي تتجاوز تلك الحدود. فماذا لو حاول رفع رأسه فوق أسوار بلده؟ هنا يكمن التحدي.
الأدب المحلي الضيق قد يُنتج نصوصًا مليئة بالصراعات الطائفية والمناطقية والسياسية، لكنها نصوص لا تعني شيئًا للإنسانية ككل. إنها حروب وأزمات، وسيول من الشتائم والانتقاصات، تعيدنا إلى منهج الراحل شوقي ضيف في تقسيم الأدب على أساس تاريخي، وإلى "فحولة" ابن النديم التي تقوم على الإقحام بدلاً من التكامل.
يُذكر أن منهج المقارنة العتيق، الذي كان يقوم على رصد الأثر والتأثير، كان همه الأول رصد عالمية الأدب. لكن أين نحن من تلك العالمية، وسط هذا الكم الهائل من الشعراء والأدباء والكتاب؟ من يعرفنا خارج قريتنا هذه؟
أذكر في مداخلة تلفزيونية للفنان محمود أبو العباس، استغرب فيها من مذيعة في قناة عربية لم تكن على علم بالفنان الكبير بهجت الجبوري، وكيف أن أثره الفني لم يصل إليهم. وكذلك عندما اعتلت المخرجة إيناس الدغيدي منصة مهرجان(شذى حسون) في 2023 لتقديم الممثلة آلاء حسين، وصفتها بالوجه الجديد، رغم أنها كانت في عقدها الثالث من التمثيل. هذه الحوادث ليست مجرد حالات فردية، بل هي انعكاس للمحلية الضيقة التي حولت شعراءً في قمة الموهبة إلى مجرد أسماء في معاجم شعرية عربية، والمحلية التي قصرت السرد العراقي على الوقوع في غياهب كتابة الرواية بلهجة المذكرات الانتقامية.
من طريف ما أذكره أيضًا أنني كنت زائرًا في جامعة طوكيو في اليابان ضمن برنامج للأمم المتحدة بعد تغيير النظام في 2003، وعجزت أنا وزملائي عن إقناع الطلبة اليابانيين بأننا من بلد اسمه العراق! لم يعرفونا إلا من خلال المحاضرة التي قال فيها الأستاذ: "أول من عرف الكتابة في بلاد ما بين النهرين"، فقلنا له بلهفة التائه عن أمه وسط السوق يتسول وجوه المارة كي يعرف أحد أقاربه: "نحن من هذا البلد!". فما بالك لو قلنا لهم نحن من بلد فيه الشاعر (الرصافي، الزهاوي… وبلند الحيدري، وحسب الشيخ جعفر…) فماذا تتخيل وجه ذلك الانسان!!!! نحن نفرح ببعضنا وننتقم من بعضنا البعض في قوقعة المحلية التي يجهلها الانسان. على هذا الكوكب …
إن غياب الخطط الاستراتيجية الثقافية التي تهدف إلى تقديم الأدب العراقي بصورة إنسانية راقية يشكل خطراً أكبر من الأدب نفسه. الأدب العظيم هو الذي تجاوز اللغة، وترك أثراً لا يزال يتفاعل حتى يومنا هذا، دون أن يحتاج إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول إلى مكتبات البشر في أقاصي الأرض.
ما تزال أغراض الشعر التي رصدها السكاكي تهيمن على ما يُكتب من أدب عربي، وخصوصاً العراقي؛ فهذا يمدح ذاك، وذاك يهجو هذا، وآخر يتسول من هؤلاء. لكن أين هو منطق الكتابة الذي يتجاوز الأغراض الشعرية العتيقة والسرد السطحي والهامشي؟ أين الأدب الذي يجاري الكتابات التي عرفتنا على العالم، ولماذا جهلنا مقاسات الادب الانساني التي تجلت في "ألف ليلة وليلة"، "رسالة الغفران"، "مقامات الهمذاني"، وأعمال لوركا، بودلير، ودوستويفسكي؟ ونجيب محفوظ الذي جهله وتجاهله العرب وعرفه لهم (نوبل)!!!!
نحن نحاكم بعضنا على محليتنا البائسة التي لن تترك لنا سوى البؤس والتشرذم. ونحتفل بمهرجانات محلية نوزع فيها دروعًا وشهادات ورقية نشتريها من شارع المتنبي، لنُكرّم "شاعر الأمة"، و"شاعر الشط الثاني"، و"شاعر مقام السيد مجهول الهوية". ثم نُقيم جوائز بلجان تحكيم تحتاج إلى من يحكمها، وسط سيول من المجاملات التي ترفع شعار "أشهد لي، وأشهد لك". إنه مشهد مزرٍ ومزيف حد الغثيان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في هامبورغ

الدرامية والمشهدية في روايات محيي الدين زنكنه

فِي حضرَةِ عِمَارَةِ "مَسْجِدِ قُرْطُبَةَ اَلْكَبِيرِ"

الكاتبة زادي سميث تتساءل في روايتها (المحتال): لماذا يجب ان نتحدث عن هويتنا الخاصة؟

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

مقالات ذات صلة

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟
عام

كيف نقرأ محتوى كتاب الكون؟

أندرو بونتزِنْ*ترجمة: لطفية الدليمي من الصعوبة بمكان ان نلجأ إلى مفردات قادرة على توصيف مدى اتساع هذا الكون: مئاتُ البلايين من النجوم في مجرّتنا، وفي الاقلّ هناك مليارات المجرّات في الكون. لكن بقدر ما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram