TOP

جريدة المدى > سينما > جينا رولاندز.. حيوية العاطفة وأصالة التمثيل

جينا رولاندز.. حيوية العاطفة وأصالة التمثيل

نشر في: 22 أغسطس, 2024: 12:03 ص

علي الياسري
من مسرح الحياة الى خشبة العرض في الصالة او ظلال الضوء على الخامة الكبيرة البيضاء وحتى الشاشة الصغيرة تألقت جينا رولاندز كنجمة ساطعة حين همست بنسيج تعقيدات الذات الانسانية في سرديات ادائية آسرة استطاعت من خلالها استكشاف مجرى العاطفة ومنابعها بواسطة توسيع افعال الادوات التمثيلية نحو صدق شعوري نقي يصل الى المتلقي على شكل تجسيد ذكي يلغي الحدود بين الممثل وشخصيته الطبيعية.
مثلت جينا رولاندز مصدر إلهام كبير لزوجها المخرج والممثل جون كاسافَيتس عندما خلقت معه شراكة امتدت من اطار الزواج الى شكل فني تجاوز النمط التقليدي فعملا على التقاط الواقع الشعوري لعكس تعقيدات العلاقات الانسانية وفوضاها. لقاءهما الاول تلمس حقيقي لنوع تأثيرها عليه، فبعد ان قضى وقت الموعد عاجزًا عن خلق حوار جاد وجاذب لم يجد سوى التكلم عن كلبه. عند باب منزلها تلك الامسية كان جون حائر في كيفية الرد حين قالت له: ليس لدينا ما نتحدث عنه! فكل ما تحدثت عنه هو كلبك! سألها كاسافيتس: عن ماذا تريدين الحديث؟ قالت وهي تنهي اللقاء بحزم "المسرحيات، الادب، اشياء من هذا القبيل." اسرع جون الى المنزل ليطلب المساعدة من والده سائلًا اياه ما الذي عليه قراءته لإبهار هذه الفتاة الراغبة في الحديث عن المسرحيات والادب؟ قدم كاسافيتس الاب وهو شخصية مثقفة عدد من الاقتراحات ومنحه مجموعة من الكتب التي اخذها جون وقرأها، ثم اتصل بجينا وسألها الخروج بموعد جديد لأنه قرأ عدد من الكتب وذكر لها عناوينها ويرغب في الحديث عنها. كانت جينا معجبة بهذا الممثل الوسيم. بفترة الدراسة في الاكاديمية الامريكية للدراما لحقها ذات يوم في الكواليس اثناء تمثيلها بمسرحية (الزاوية الخطرة) للكاتب الانكليزي جي بي بريستلي ليقول لها " انتِ ممثلة رائعة". تذكر رولاندز "انه لأمر مضحك ان اصبح هكذا، لأنني في الطفولة كنت خجولة وخرقاء مرتبكة، ولكن بمجرد ان اضحيت ممثلة من بين ممثلين اخرين الا واختفت هذه المشكلة بشكل نهائي".
ان سمات اداءها التمثيلي المرتكزة على قدرتها في استجلاء الغموض عن صور الطبيعة المعقدة للذات الانسانية من خلال انتقالات عاطفية وشعورية مثلت استكشاف فني اصيل للروح على خلفية صراعات الحياة. لقد انتفع كاسافيتس بدهاء فني من قدرات زوجته فصنع افلام رائدة خارج سياقات الانتاج الهوليوودي التقليدي ابرز من خلالها الاسس الحديثة لسينما مستقلة امريكية تحدت المنهجية المعتادة في الروي القصصي وتصوير الشخصية ونموها. فعملت افلامهما على الغوص باتجاه استخراج الجوهر العاطفي والنفسي للفرد، مع العمل على ازالة الحد بين الواقع والتجسيد لخلق تشابك ادائي يمنح الممثل المساحة الحرة لمزج معضلاته الشخصية مع تعقيدات الواقع الدرامي للشخصية المؤداة. بفتح ابواب القلوب تحقق الصدق العاطفي لتصوير الهشاشة الانسانية جسدها تمثيل انطلق من التأمل الابداعي بواسطة التفاني الفني ليكشف فرادة الصورة السينمائية المُنجزة.
طريقتها في التمثيل تستدعي النظر بإعجاب الى مدى معرفتها وفهمها لتعقيدات النفس الانثوية. امر اتاح لها استخدام غير مقيد لقدراتها في تشخيص نماذج متعددة الطبقات. ففي فيلمها الاشهر (امرأة تحت التأثير) والذي يعتبر تمثيلها فيه من ابرز مائة اداء تمثيلي في تاريخ السينما اظهرت بجلاء حواف النفس الممزقة لشخصية مايبل لونغيتي الغارقة في دوامة من العاطفة والاحباط بعد ان علقت بين التوقعات التقليدية للمجتمع والاسرة من المرأة وبين هواجسها وأفكارها الخاصة. تعمل جينا رولاندز ببراعة على التقاط طبيعة المرض العقلي واضطراباته، فتتنقل بسلاسة غير عادية بين وهن شخصيتها وعنفها الساطع جاذبة الجمهور الى استكشاف مثير للنفس البشرية وصراعاتها الجوانية. فهي تبرع في استخدام عيونها بتلك النظرات العميقة المتأصلة بالقلق –توظفها بلحظات الصمت لإبراز قسوة الاغتراب النفسي- فتمزجها مع تنويعات صوتية تتحرك نبرتها من الشدة والغلظة الى الارتعاش والانكسار.
بفيلم (ليلة الافتتاح) تلعب دور ميرتل غوردون الممثلة المسرحية العالقة وسط ازمة منتصف العمر فتطرح اسئلة وجودية عن ماهية شخصيتها خصوصا بعد ان شهدت وفاة مفاجئة لإحدى معجباتها. فموضوعة الفيلم حول الشيخوخة والانوثة والضغوط التي تواجهها النساء في العمل ابرزتها صدمة الموت وتجليات وجوهه المتعددة. استطاعت جينا ان تعكس بتمثيلها البارع صخب الذات وهدير امواجها في السعي المحموم للاستكشاف ما بين الواقع الشخصي العاطفي واضطرابات الشعور وبين ضغط طموحات المجد الفني والمعاناة من اجل البقاء لزمن اطول تحت وهج الاضواء. تشخيصها لميرتل عكس انزلاقات الروح تجاه الظلمة التي تحكم اخر الطريق للممثلة. فالتقاعد او الانزواء نتيجة تغير الظروف وتبدل الزمن للفنان هي حالة من القتامة التي تغطي الروح تمثل صورة مرعبة لنهاية غير مرغوبة لضياء شمعة الابداع الشخصي.
يذكر الناقد السينمائي الراحل روجر ايبرت في مقاله عن فيلم (غلوريا) ان اداء جينا رولاندز التمثيلي هو ما يدفع الاكشن والاحداث في الفيلم "بطاقة عصبية جذابة للدرجة التي سيكون الامر غير لائق لو توقفنا للتفكير في مدى سخافة كل شيء". تأخذ جينا شخصية غلوريا سوينسون من غلاف القسوة والسلوك الناشف شعوريًا الذي تحيط بها نفسها كنتيجة لكونها صديقة سابقة لرجل عصابات ما جعلها في وسط عالم الجريمة الصعب والمُتسم بالخشونة والعنف الذكوري الى لحظات من حنان الامومة المخبوءة تحت صرامة الواقع. كان لحرية الارتجال التي يمنحها المخرج كاسافيتس اثر في براعة جينا التمثيلية حيث نجحت بطرح ابعاد الشخصية بقوة لغة الجسد وتعبيرات العيون لتصبح لغة سردية مهمة في الفيلم. فهي تستخرج العمق العاطفي لغلوريا بالموازاة مع كشفها لهواجس الصراع الداخلي بين مخاوفها من الخطر المحدق بها بسبب الصبي وبين شعور المسؤولية والعاطفة المتنامية تجاهه. سارت رولاندز على الخط الفاصل بين الشراسة والهشاشة لشخصية غلوريا دون ان تنحدر نحو ميلودراما رخيصة فكشفت بمهارة فريدة عن طبيعة الصراع بين ماضي وعر وغليظ وواقع مستقبلي مستقر وآمن تحلم به.
يمثل فيلم (تيارات الحب) ذروة توهج اسلوب جون كاسافيتس في استحضار القصص بطبيعتها الخام الى ارض الواقع الدرامي لخلق مزاج عاطفي يسعى لنهج سردي يتطلع لاستكشاف تعقيدات العلاقات الانسانية. يقدم الفيلم الفائز بالدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي من خلال حكاية الاخوين سارة وجاك دراسة شخصيات مؤثرة تستحضر السجل الحياتي لتقلبات المزاج والمشاعر واضطراب السلوك. يتعمق في النظر بموضوعات الحب والعزلة وازمات التواصل والبحث عن الهوية. اتسم تجسيد جينا رولاندز لشخصية سارة بتبيان لجميع السمات الشعورية والعجز امام تراكمات المخاوف والحساسيات البشرية والتي تحاول اتقائها بتدفقات التواصل العاطفي والحب غير المشروط والتسامح مع الاخطاء والاستعداد لتجاوز الصعوبات والعطاء المثمر في خلق الالفة الاسرية. من ادائها يبرز فيض احاسيس تلج بوابة الفرح من مسارات اليأس والاحباط. الصمت عندها المساحة الابرز لحديث العيون، فيما ترسم ملامح الوجه حكايا المزيج القلق للهشاشة والقوة. كانت اللقطات الطويلة ساحتها الاهم في مراكمة تأمل تمثيلي يسعى لإدامة تواصل انساني ابداعي عميق الجذور مع المشاهدين.
لقد استطاعت جينا رولاندز طوال مسيرتها التمثيلية الحافلة وبتأديتها للادوار النسائية لشخصيات تمتلك حيوات تعقدت ارواحها ومساراتها بفعل ضغوطات العيش ان تبرز قدراتها الفريدة بغرس تلك الذوات المستنزفة في اطار نسيج عاطفي يستدعي النقاش حول ازمات انسانية ذاتية محاورها تعريف النفس البشرية لهويتها وكذلك كيفية قراءتها لركام الخسارات على طول طريق الحياة والنظر لمنابع القوة في الروح وادامتها لمواصلة نضال العيش وربما تحقيق بعض النجاحات الشخصية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

الأدب في السينما: رواية "دورة اللولب" لهنري جيمس

تجارب للمشاهدة: الدائرة الحمراء.. شخصيات تقوم على مسارات الفلسفة الوجودية

مبادرات جديدة لـ "سيني جونة" وبتحديث العلامة التجارية لبرامجها الرئيسية

مقالات ذات صلة

مبادرات جديدة لـ
سينما

مبادرات جديدة لـ "سيني جونة" وبتحديث العلامة التجارية لبرامجها الرئيسية

المدى/ خاصمع اقتراب الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي، تعلن "سيني جونة" عن تحديث العلامة التجارية لاثنين من برامجها الرئيسية، مما يعكس النمو والتطور المستمر للمبادرة.وحتى تعبر الأسماء عن أنشطة البرامج وأهدافها بشكل أفضل،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram