TOP

جريدة المدى > عام > مخلص خليل: الشعر والبحر

مخلص خليل: الشعر والبحر

نشر في: 26 أغسطس, 2024: 12:25 ص

زهير الجزائري
هل كنا على موعد؟ بذاكرته الحادة الدقيقة سيذكّرني مخلص باليوم و المكان والصحبة. في أواسط الستينات، عند التقاء شارع الجمهورية بالميدان كان للقاء الأول. نزلت من فندق (نزهة الشمال) فوجدت صديقي الشاعر حسين حسن ومعه شابين في آخر مودة.. بنطلون شارلستون وسوالف مقتصدةً، مخلص خليل وفاروق سلوم. ابتسامتها تسبق كلمات التعارف.
للمشاكسة سألني حسين حسن:
-ماهي آخر النكات عن طاهر يحيى؟
-…؟
لحسن حظي ان ذاكرتي لم تسعفني. حسين حسن قطع كلمات التعارف وقال لي إنه عمهما.ابتسامتها النظيفةً الثابتة دلتني على أن هذا التعريف لا يهمهما. هناك تعريف آخر:
-شاعران…
قالها حسين بجذل تأكيداً على صداقة الحرفة.لم أتقبل الأمر. القميص مكوي بعنايةً، صافي البياض، لا طيّة زائدة و لا بقعة زيت ولا زر مقطوع. كيف يكون شاعراً بهذه الأناقة المتقنة؟! كنا نعتبر هذه من شكليات الموظف.
قطعنا شارع الجمهورية باتجاه شارع (أبو نواس). نتحدث أنا وحسين والشاعران في حالة إصغاء تام و بابتسامات خجل. أحاول أن أزيل حواجز التردد فيصدّني أدب الإثنين، ما تزال الحشمة راسخة. أنا الأخ الأكبر بينهم. كنّا على موعد مع الشعر. كل يحضرّ قصيدته و يدسّا في الكلام العادي. الشعر سيزيل أسوار الحجر. قرأ حسين قصيدةً عن أمه التي أعرفها، عنها وإليها. الأم كانت حاضرة في قصيدةً مخلص، حاضرة باسمها وغائبة في ضباب الغربة. انا اليتيم بين الثلاثة، يصعد الشعر متسللاً من داخلي ثم يتوارى خجلاً. في دفاتر يومياتي لا أقلّ من ثلاثين قصيدة، لم أنشر ولا واحدة منها لعدم الثقة بالشاعر المقرفص في داخلي. لم يجمع الثلاثة حولي الشعر وحده، إنما نبرة التأسّي الخافتة و مساحة الصمت بين المقاطع. في بداية الستينات كنت متأثراً بقصائد سركون بولص و فاضل العزاوي. كلاهما يريد ان ينفي الغنائية. حين استمعت لنبرة التأسي في قصائد الثلاثة اكتشفت أن الإيقاع والغنائيةً متأصلة في داخلي، أنا ابن المدينة المشحونة بالشعر.
… كان هذا أول لقاء مع مخلص. بداية حياة مشتركة في العمل الصحفي، في الحزب، في السكن، في الخيبات، في المنافي…
في الجريدة
تعززت علاقتي مع مخلص خليل في جريدة (طريق الشعب). الجريدةً العلنية للحزب الشيوعي انطوت على فكرة و علاقة. أحيلت لنا مهمة تحرير الأقسام المحلية. مخلص سيحرر صفحات العمال والفلاحين، فاطمة المحسن ستحرر صفحة المرأةً، وأنا سأحرز صفحات الطلبة والشباب والتعليم والمعلم، وهي صفحات أسبوعية وصفحة حياة الشعب اليومية. ثلاثتنا لا ننتمي للشرائح والطبقات التي نكتب عنها،ً إنما للطبقة الوسطى. لا أتذكر أنني رأيت معملاً في حياتي، ولا عشت في أرياف الفلاحين ولا الحياة في مدينة الفقر(الثورة). أتخيل مخلص خليل مثلي. إبن مدلل لعائلة متعلمة من الطبقة الوسطى. حساسيتنا وفكرتنا تجعلنا في سلّم أدنى من طبقتنا. ندرك هذه الامكنة وناسها بالتخمين والانتماء للمصالح. ننكر أنفسنا وطبقتنا و نكون هناك بالتخيل والفكرة. عملنا المكتبي في التحرير حرمنا، أنا ومخلص، من متعة التحقيقات التي تستدعي عمل كل الحواس لاحتواء الحكاية. هذا هو العمل الصحفي الذي أحببناه وأتقنّاه. فاطمةً وحدها بيننا نحن الثلاثة بقيت وفيّة للتحقيقات حتى وهي محررة.
جمعتنا في مقر الجريدة قاعة كبيرة في الطابق الأسفل. ضمّت أيضاً الشاعر فاضل السلطاني، و الروائي والمترجم فلاح رحيم و فنان الكاريكتير مؤيد نعمه، والصحفي والقاص عبد جعفر… ستفوتني بالتأكيد أسماء سأتذكرها مع كثير من تأنيب الضمير.. هذه الأقسام تسبب صداعاً دائماً لقادة الحزب. على كل واحد منّا ما أن يسلّم صفحته لقائد حزبي يقيم في الطابق الأعلى حيث يجري شطب الكثير من الجمل لتخفيف النقد و حتى الغاء مواضيع بكاملها لأنها تسبب حساسية ل(الحلفاء). نعرف هذا الحرص لذلك نكدّس الإيجابيات، مهما كانت صغيرة و حتى تافهة، في مقدمة الموضوع ثم نبدأ بالشكاوى وهي كثيرة. الحلفاء يقرأون الجريدة بعدسات سوداء محمّلة بسوء النيّة المسبقة و يعلنون في اجتماعات الجبهة أن صحافة الحزب ترصد السلبيات التي تبدأ بعد كلمة (ولكن). لذلك علينا أن نخفف النقد كلما ساءت الأمور في اجتماعات الجبهة. التشكّي في أحاديثنا يتراكم ويتحول إلى سخرية سوداء. الجبهة نفسها تصبح موضوع سخرية مرّة نتبادلها نحن الثلاثة فاطمة المحسن، مخلص خليل وأنا.
كلنا انفصلنا عن عوائلنا وانتمينا لعلاقة العقيدة بدلا من علاقة الدم. سكنّا في خط مستقيم يبدأ من (الشارع المشجر) في (البتاويين) حيث أقمت مع زوجتى سعاد وطفلينا في شقة معلقة بالطابق الثالث. على نفس الخط مجاوراً (لسوق الأورفلية) يسكن فالح عبد الجبار وزوجته أميرة، بعده سكن مخلص خليل وزوجته سهام الظاهر مشتمل بحديقة ضيقة، لكنها على أية حال حديقة بشجيرات محصورة وخجولة. في نهاية الخط مطلّاً على (شارع السعدون) يقع مقر جريدة (طريق الشعب) التي ستحتوينا وترسم مصائرنا اللاحقة. بيوتنا نحن الثلاثة كانت مقرات لضيافة الذاهبين و العائدين من اتحاد الأدباء قرب ساحة الأندلس أو مقهى المعقدين في بداية السعدون أو بارات أبو نواس. أو متصفحي الكتب في المكتبات. فيها تعقد اجتماعات حزبية واليها تتجه عيون أجهزة السلطة. في هذه المواقع الحساسة في مركز المدينة كان بيت مخلص خليل التكريتي هو الأكثر دواماً و كرماً في الضيافة. لا يكلاّن، هو وزوجته سهام الظاهر، من استقبال الضيوف وتوديعهم. لا أحتاج لموعد مسبق حين أذهب لزيارتهم. هناك باب مفتوح ذكره مخلص في قصائده، مفتوح للألفة و المترصدين. دائما وخيط حين أقطع السوق والزقاق أحضّر حديثي ومزاجي بحيث لا تفلت كلمات توتر الأجواء بيني وبين مخلص المتوجس والمستعد دائما للتوتر. في الزقاق أتتبع خيطاً دائمياً من روائح التوابل والبصل من فاعرف أن سهام ومخلص هناك وإن الضيوف سبقوني إلى المائدة الدائمة. في المطبخ الصغير تقف سهام بلا كلل لتهئ المزّات والطعام. تحرص على ان تقدّم عيّنة لمخلص المشغول بالحديث، فيتذوّقه ويتلمسه بأطراف اصابعه ليقبل أو يرفض. وفي وسط المجموعة مخلص خليل يشرب ويتحدث. الموضوعين الأثيرين في أحاديثه، مدينته تكريت و الحزب. الحزب في حياته ارتبط بالمدينة. فهو مثلي دخل الشيوعية عن طريق خواله صالح ويحيى. في هذا البيت تعرفت على ابنة خالته وداد وتزوجتها بعد أربعين عاماً عاماً.…
أتذكر تماماً طريقة مخلص في الحديث. يطرق برأسه إلى الأرض ويوشك ان يغمض عينيه حين يستدعي ذاكرته. تاتيه الوقائع والصور من ظلمة فيروزية مثل نجيّمات متتالية، وتخرج لمستمعية مثلما يكتب جملاً مدققة، لا تفصلها نقاط، إنما فوارز، فالحديث مستمر. حين يصل ذروة الدراما يتوقف فتتسع عيناه وهو يتطلع في الوجوه..هذه علامة التعجب!
في الكتابة يفعل الشئ نفسه، لكن عمودياً. أحسده على عنايته بطاولة الكتابة.. كل شيء مهيأ لجلوس الشاعر المدلل: يختار أجمل الأقلام ويغرسها كما الحدائقي في كأس المذاق، ويرتب أوراقه باستقامة. البياض يستدعي الكلمات. هناك مساحة فارغة لكوب قهوة. حين يكتب فبخط جميل ومساحات محسوبة.ولا يشطب إلا ويبدّل الورقة ويبدأ ببياض أشدّ بياضاً. يعرف مكان النقاط و الفوارز، لا ينثرها، إنما يضعها على كراسيها. المقاطع نصفها كلمات ونصفها الآخر صور، يلضمها مثل مسبحة. يقطع القصيدة من وسطها حين توشك أن تكتمل. تكمن الدهشة في تناثر الخرز قبل الاكتمال. . هكذا فعل بحياته!
بانتظاره عند البحر
في (ميناء طرطوس) السوري وقفنا فالح عبد الجبار وأنا نحدّق في ظلمة البحر بانتظار مخلص خليل. سياتي في آخر سفينة تغادر بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي. صامتان كنّا، لكن خيالنا بثرثر بلا توقف. صور تشتعل أمام ظلمة البحر ثم تنطفئ بسرعة. كيف سيقطع هذا المدلل الأبدي الرحلة الشاقة؟! بماذا يفكر هذا النحيل وهو في سفينة؟ خلفنا صف طويل من كبار المسؤولين البعثيين جاءوا ليستقبلوا سفينة النكبة الثالثة… انتظرنا طويلا نقطة ضوء في امتداد البحر المظلم. سياتي … وربما لن ياتي؟ البحر متسع و غامض وكان لمخلص دائما وعد بالغياب؟ نقول تخميناً ثم نبلعه بحرج، فقد تعودنا على أن تخالف الحياة الماكرة تصوراتنا المسبقة. لعل السفينة غيرت اتجاهها إلى ميناء آخر، لعلها قررت ان تهيم جزعاً من الموانئ… فجأة بدت نقطة بعيدة وباهتة تشبه الأمل. قفزت عيوننا ثم عادت غير مصدقة غير الظلمة. ارتفع أصبع أحد الجنرالات بإعلان صوتي:
-هاهي!
نقطةً تتحرك ببطء شديد.
استعد المسؤولون الحزبين واصطفوا ليرفعوا أيديهم متكاتفين كأنهم عادوا منتصرين من معركة، مع إن قواتهم لم تتحرك قيد أنملة.…لم تصل نقطة الضوء ولم تتحرك. بقيت ثابتة وسط الظلمة… سمعنا همسات حولنا بأن قوارب مسلحة سورية أوقفت السفينة في البحر لتفتشها و تجرد المقاتلين الفلسطينيين من أسلحتهم. سيأخذونهم جميعاً إلى معسكرات خارج المدينة ليغسلوا أوهامهم: هذه ليست جمهورية الفاكهاني، هذه جمهورية البعث. صدق المتوجسون فقد اصطف شبان بعثيون ببدلات موحدة معتمة وهم يحملون صورة الأسد ببدلته العسكرية. تململ وهتافات فالتة من سكان المخيمات الذين جاءوا لاستقبال أولادهم. من ظلمة الميناء خرج مسلحون سوريون ليطوقّوا الحشد. اقتربت السفينة بيضاء مثل حمامة، في مقدمتها يلوّح علم فلسطين: هذه نكبة أخرى! نزل المقاتلون الفلسطينيون طابوراً بين صفين من المسلحين السوريين. الأسماء من ورائنا تتقافز مشددة أو صافرة مثل رصاصة أخطأت هدفها. الناس يتعرفون على أولادهم وقد شاخوا من وطأة الحصار وذلّ الخيبة. متوار بينهم رأينا مخلصا وقد تقلص حجمة إزاء هول ما عاشه. بلا سلاح ولا حتى حقيبة. فقط دفتر قصائد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مخلص خليل: الشعر والبحر

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

صورة الشعر.. دفاتر ضياء العزاوي

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا

مخلص خليل.. يُغادر المدن كلّها

مقالات ذات صلة

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا
عام

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا

حاوره/ علاء المفرجيوُلد الشاعر والكاتب والأكاديمي فيصل الأحمر في ولاية تبسة. حصل على بكالوريا في الرياضيات سنة 1991، وعلى ليسانس أدب عربي سنة 1995، وماجستير أدب عربي سنة 2001، ثم دكتوراه في النقد المعاصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram