TOP

جريدة المدى > عام > علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

نشر في: 26 أغسطس, 2024: 12:50 ص

سعد القصاب
منذ سبعينيات القرن المنصرم، أنشأ الفنان علي طالب (1944)، تجربته الفنية وفق رؤية ذاتية خاصة. وحده، من كان يعرف، ومازال، بعدها المرجعي والجمالي. بل أن أثرها التعبيري، وكأنه صناعة شغوفة، وصبورة لهذا الانفراد، وحينما كرّسه، أيضا، أثناء رفقته الدائمة مع ذلك البقاء اللجوج في الجانب الآخر، وعلى حدة، مما كان حادثاً ويحدث في المحترف الفني العراقي. ذلك ما أبقى مشروعه الجمالي موضوعاً للفضول وللسؤال والاهتمام الجاد.
المحترف الفني العراقي، ومنذ ستينيات القرن المنصرم وما بعدها، كان مشغولاً بتعدديته، مرة بمشهدية الواقع المحلي، ومرة أخرى بالممارسة الاحيائية للمرجعية التراثية، ومرة تالية بالموضوعة السياسية، ووفق صياغات أسلوبية قائمة حيناً على الاستعارة وأحياناً أخرى على الانغمار في التجريب. أتحدث افتراضاً بوصف هذا المحترف قد بات متطلعاً وبقدر من الاحترافية، ومنذ خمسينيات القرن المنصرم، في تعاطيه لإشكالية الفن، وطبيعة حضوره، لجهة الموضوعات والاهتمام الاسلوبي.
كان علي طالب الأقرب قليلاً الى جيل الستينيات منه الى الجيل الذي تلاه، زمنياً أو انشغالاً بتلك الاهتمامات الفنية والموضوعية لذلك الجيل، خاصة، في منحاه التجريبي والحداثي وروحه التوكيدية، وبما انطوى عليه ذلك الزمن من دافعية خلافية في توجهاته وخياراته وممارساته للفن والثقافة على حد سواء. وكان، كذلك، عضواً في جماعة " المجددين- 1965". تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في العام 1966، وأكمل دراسته العليا "ماجستير" في مصر، تخصص في فن التصميم الطباعي. أقام العديد من المعارض الشخصية في، الكويت، بغداد، بيروت، دبي، المنامة، وآخرها كان معرضه الاستعادي " 2022"، في المتحف الوطني الأردني، عدا مشاركات جماعية ومشتركة في دول أخرى مختلفة.
كانت فضيلة الجيل الستيني، قد تأتت من تقديمه زخماً للكثافة التعبيرية في العمل الفني، وانشغاله بتعيين موضوعات كانت أبعد من ألفة الموضوع المحلي ومشهديته التصويرية، والذي دأب عليه جيل الرواد. عدا الانغمار تجريبياً في توليد أشكال ومعالجات فنية مستحدثة في الانشاء الفني. وكانت إحدى أكثر الثيمات تفضيلاً وحضورا خلال ذلك، هي الجسد بأجزائه، الرأس والأكف خاصة، مرة في دلالاته التعبيرية لما سيمثل من بعد ايحائي لموضوعة الاحتجاج السياسي، وانعكاسات الأسى الفردي والاجتماعي، ومرة تالية كأثر تصويري وشكلي تمت مقاربته بوصفه علامة لافتة على فكرة الانشغال بفكرة المختلف وتوظيفاً لصورة الحداثة. مجموع هذه الاهتمامات هي نتاج من تحولات ذلك الزمن الانتقالي، في تفصيله الثقافي والاجتماعي وتوجهاته السياسية، خاصة بعد نسكة حزيران1967، والتأثير الذي ستحدثه الحركات الأيديولوجية ذات النزعات الثورية المناهضة للهيمنة الكولنيالية على المستوى العربي والإقليمي. كان مقصد الاستعارة للجسد بما يشبه تعويذة للطوبى ووعداً بالحرية.
من صلب هذه المشهدية المتعددة بأدوارها وانشغالاتها، تعينت تلك التفضيلات الفنية والتي ستؤطر تجربة الفنان علي طالب ومقصدها الجمالي. خاصة باستعارته لصور ة الجسد، وفي شكله المختزل، وحيث الرأس ثيمته الأساسية، والتي سيبقي عليها بأوضاع ومعالجات متعددة وتسميات تفاوض تصورات تعبيرية حيناً وعاطفية حيناً آخر، توازي لجاجته الدائمة للبقاء في الجانب الآخر من انشغالات المحترف الفني العراقي والتي تواصلت منذ أزيد من أربعة عقود.
في معرضه الشخصي والذي أقيم في بغداد، المتحف الوطني للفن الحديث" كولبنكيان"، في العام 1976. كانت تلك احدى تجاربه اللافتة، وكأنها بمثابة عتبة ستستشرف مسيرته الفنية التالية، وهي تمضي بعد ذلك، وفق تنوعات الخبرة التي ستجدد من حضورها بدافعية اهتمام جمالي وموضوعي مضاف. كما يمكن تعينها كلحظة جمالية فارقة في مشهدية المحترف الفني العراقي وقتئذ. رؤية اكتنفتها الغرابة وعدم التوّقع، جرّاء الانشغال المفارق عما عهده ذلك المحترف، خاصة اهتمامات وتوجهات مجايليه من فناني الستينيات: كاظم حيدر، ضياء العزاوي، محمد مهر الدين، فايق جسين، صالح الجميعي، رافع الناصري، والتي باتت مكرسّة بأثر حضورها التصويري الصريح والتوكيدي والمعلن، والتي أعلنت عنه، عبر طبيعة تأليف يتمثّل الموضوعة الأيديولوجية، وعبر مقصدها الإنساني المشتبك بتداعيات وأحداث الواقعي، والسياسي، والمجتمعي، وهي تفصح عن أسلوبيتها المختلفة، والمتعددة، في صيغة معالجات تجريبية حرة للأشكال والخامات. فيما أبقي علي طالب تجربته في فضاء يكاد أن يتوسّم الكتمان، مفعم بما هو داخلي وذاتي، بل وشديد الخصوصية. يؤطره قدر من جمالية مفهومية، يستدعي من خلالها أثر التفكّر والتأويل. ذلك ما بينته لوحته " تفكير، سم 80×80، 1976"، والتي انطوت على بعد تأملي ليس لجهة موضوعها، بل أنشائيتها التصويرية كذلك. وجه جانبي يشي بالصمت، وفي حركة مشدودة الى الامام، تعلوه هالة دائرية تتداخل بإشاراتها الخطية في ملامحه، وثمة ايماءة لكف بسبابته تشير الى فعل التفكير، فيما يشغل التباين اللوني بين البني الغامق والاصفر مساحة السطح التصويري للعمل، والقائم على صياغة شكلية مختزلة، اذ لا أثر لتفاصيل تصويرية أكثر. يستدعي هذا العمل أثر التفكير، وتفضيل فعل أنساني داخلي، يستبطن، ربما، انشغالات وجدانية أو ذهنية، وسيكتفي العمل الفني في الإبقاء على ترسيم وتخيّل تلك اللحظة التعبيرية، التي انطوت على رمزيتها البليغة.
مثل هذه العمل سيعزز فضيلة جمالية راسخة، ودائمة، في أعمال الفنان علي طالب، لجهة، أن أفقها التعبيري سينفتح على مدى من التساؤلات، حيث لا إجابة ترجى، فهو في طبيعته جواني خالص، وكتوم، وعلى قدر من غموض ملتبس، حتى وان توسل بأوضاع وحالات تشير الى ما هو عاطفي، الى ما هو تاريخي وشخصي، الى ما هو وجودي في رحلة الزمن، أو الحلم، أو الوحدة.
أن الاستعارة الرمزية للرأس الإنساني، أو بعبارة أكثر امتثالاً باتت بمثابة" أسطورته الشخصية"، كما يذكرها الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد، ويعللها، كأنه " بذلك يحقق واقعه الذهني التجريدي محيلاً اياه الى… واقعة فنية".
هذه الثيمة الأساسية، الواقعة الفنية، بصورتها الرمزية وبعدها الدلالي، ستظهر لاحقاً، بانشغالات ومعالجات متعددة، مرة كرأس مجتزأ ومرة أخرى بأوضاع عمودية أو أفقية أو مقلوبة، واحياناً بإضافة صياغة ثنائية، بطبيعة عاطفية في محتواها، لرجل وامرأة، ومرة أخيرة سيخرج هذا الرأس من فضاء السطح التصويري ليكون شاخصاً بمفرده، في صورة عمل نحتي، أو مفرغاً من فضاءه التصويري والذي يشخص غالباً بشكل ساكن، ليكون جميع تلك التداعيات التي تمثلها الفنان فيه، كأن يكون بعض سيرة، أو حتى يومية لحدث غامض، مكتفياً بذاته، ومتطلعاً الى حضوره الوحيد، ألأعزل الا من وجوده.
كذلك يمضي الفنان علي طالب في ذات المنحى التصوري، حينما يقيم علاقة أخرى مع الجسد، الجسد الشاخص، الشديد الاختزال، الا من أطراف محورة، قليلة الايماءة، والذي غالباً هو في علاقة ثنائية مع الرأس، بل في حوارية، حيث يتطلع كل منهم الى الآخر، وهي ثنائية علي طالب الاثيرة في تعبيره عن الانسان. في حالاته العاطفية، الذهنية المجردة، الحلمية، وجوده المرتجى، أو في علاقته مع العالم، حينما تتمثل موضوعاً تصويرياً مفعماً بالاختزالية، لكنه، غالبا، ما يؤثر تمثّل حدثه الانفعالي والتعبيري. لا أثر لحضور آخر، الا هذه الوحدة التي تقابل وجودها، جزئها الآخر، وأثناء ممارسة تتماثل فيها جدلية الحضور والغياب. حيث كل منهما، الجسد والرأس يشخصان في مكان غير متعين، الا بصورة فضاءات تصميمية، وعلى شكل سطوح هندسية متقابلة، أو متناظرة، مشغولة بألوان كابية تؤطر وتحدد من وجود تلك الثنائية.
ان المكان لدى علي طالب، يفترض وجوده كحيز تصويري متخيل، غير متعيّن، ولا أثر دال يعرّف بملمحه، أو يمكن توصيفه باللامكان، موغل في حلميته وغموضه. فيما سيبقى الجسد والرأس وكأنهما مكتفيان بالزمن، وهو العنصر الاثير الذي يفصح عن مقصدهما، والذي يستدل عليه بالحدث التعبيري والجمالي الخالص اللذان يظهران من خلاله، بل يكاد أن يكون تعليلاً لوجودهما الانساني، حتى وأن أفترض لحظة عاطفية اثيرة، أو في صورة لقاء موغل بالشجن.
ان صناعة هذا الاختزال، وأثر الاقتصاد الشكلي والدلالي لتجربة الفنان علي طالب التصويري، هو من يمنح عالمه التصويري فرادة الدفقة التعبيرية البكر وكثافة الأسئلة الأولى، والتي تستدعي بدورها، وتبقي لحظة الانشغال بتأملها، وافتراض أسئلة أخرى عن معنى يدرك تمثّلات هذه التجربة الجمالية الخاصة، والفريدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مخلص خليل: الشعر والبحر

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

صورة الشعر.. دفاتر ضياء العزاوي

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا

مخلص خليل.. يُغادر المدن كلّها

مقالات ذات صلة

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا
عام

فيصل الأحمر: «مدينة القديس أوغسطين» تحاول دفع معطيات الفلسفات المهيمنة على أيامنا والموضات التي أولع بها زمننا

حاوره/ علاء المفرجيوُلد الشاعر والكاتب والأكاديمي فيصل الأحمر في ولاية تبسة. حصل على بكالوريا في الرياضيات سنة 1991، وعلى ليسانس أدب عربي سنة 1995، وماجستير أدب عربي سنة 2001، ثم دكتوراه في النقد المعاصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram