ستار كاووش
كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع عبارة عن غواية من غوايات الطفولة، ولا نحتاج لتحقيق ذلك سوى لبعض الثقة والحرية التي نمنحها لأنفسنا. وهذا ما رأيته وإنبهرتُ به وأنا أتجول وسط عالم هذا الرجل الحالم الجميل، الذي أقامَ له متحف لام بمدينة ليل الفرنسية معرضاً كبيراً، عرفتُ من خلاله كيف وضعَ هذا الرجل قدمه في طريق الجمال بطريقة فريدة وخاصة وطريفة. فمن هو برونيه وما الذي قدمه ليكون واحداً من سحرة الجمال والابتكار الممزوج ببعض الدعابة والطفولة والمرح؟
ولد برونيه جنوب فرنسا سنة 1945، وكان والده يملك دار سينما ويهتم بعرض أفلام هوليوود في عصرها الذهبي، وقد تركَ الصبي برونيه المدرسة مبكراً لينضمَّ الى والده في إدارة سينما العائلة، فكبر عشقه للأفلام وعرف الكثير من أسرار صناعتها، لكن الأمور لم تجرِ دائماً حسب الطموحات التي يبنيها الانسان، فقد أفلست السينما وتم اغلاقها بسبب رواج التلفزيون. لكن الصبي برونيه لم يستسلم للأمر وواجه كل ذلك بنظرة جديدة وغريبة وغير متوقعة، حيث لم يتقبل فكرة إبتعاده عن السينما التي كانت سبب سعادته، وبدأ بصناعة الأفلام بنفسه كهاوي وبشكل بسيط، ولم يكتف بإخراج هذه الأفلام، بل كتب لها السيناريوهات والحوار وألَّفً لها الموسيقى وصمم ديكوراتها وصورها وأنتجها ورسمَ أفيشاتها، بل وقام بتمثيلها بنفسه. وهذا يقول ما فيه الكفاية عن ولعه وغوايته بصناعة الأفلام.
لكن كل أفلام برونيه تنتمي الى عالم غريب ومختلف، فقد رسم كل الشخصيات التي ظهرت في أفلامه على كارتون مقوى وثبَّتها أمام الكاميرا لتحلَّ محلَّ الممثلين، وكل الأصوات التي تظهر في افلامه هي صوته ذاته، والذي كان يغير نبرته هنا أو هناك حسب تغير الشخصية. هكذا كان برونيه يمسك بشيء من خياله ويلقيه أمام الكاميرا، فيما يقف هو خلفها ليصور المشاهد تباعاً. ولأنه كان يعشق الأفلام الكوميدية، الويسترن، المغامرات، لذا كانت أفكاره تتبلور غالباً ضمن هذه المساحة، وكان لا يهتم بقبول أو رفض نجوم كبار مثل همفري بوغارت، تشارلتون هيتسون أو غريغوري بيك للعمل في افلامه، فهو لا يحتاج الى أخذ رأيهم أبداً، وكل ما عليه هو أن يرسمهم على الكارتون المقوى ويحركهم كما يريد مع اضافة صوته وبعض المؤثرات، ليكتمل لديه أي مشهد يريد، والطريف هو انه لا ينسى إدخال بعض الممثلين الفرنسيين في أدوار ثانوية، والأمر لا يحتاج سوى لبعض قطعٍ من الكارتون. وقد جعلَ (الممثلين) في بعض أفلامه، يتحدثون عن حياتهم المهنية وعملهم ويستذكرون الكثير من التفاصيل التي تتعلق بأفلامهم، وكانوا يتحدثون عن كل ذلك مع برونيه ذاته.
كتب برونيه ثلاثمائة وخمسين سيناريو طيلة حياته وأخرج الكثير من الأفلام، وحتى الأفيشات الجميلة التي رسمها لأفلامه كانت فريدة وخاصة، وهكذا تعلَّمَ صناعة جماله الشخصي بنفسه، وهو لا يتوانى من إستعمال أية ادوات ومواد متاحة لإنجاز اعماله، حيث رسمَ في بداياته الاشكال والشخصيات التي يستخدمها في افلامه بواسطة الطلاء الذي يستعمل لطلاء البيوت، ثم اتجه لأصباغ الأكريليك. وهو يقوم بتقطيع قطع الكارتون بهيئة أشخاص ويثبتها بدعامات خشبية من الأسفل ويعطيها الأدوار الرئيسية والثانوية ويبدأ بالتصوير.
كل افلام برونيه وما يقوم به، هو نوع من الاستعادة لأيام صباه وتلك الافلام التي شاهدها وأَحَبَّها وترسخت في خياله، وأدخلَ الكثير من تفاصيلها في أعماله فيما بعد، انه نوع من الحنين لأيامه في مقاطعة لو تارن، ودار السينما التي ترعرع فيها صحبة والده من سنة 1949 الى سنة 1963 وجعلت منه عاشقاً أبدياً للسينما. وهذا ما رأيته بعد أن تجولتُ في معرضه ووقفتُ أمام نماذجه العديدة وتنقلت بين الشخصيات التي رسمها على الكارتون واستعملها في افلامه، والتي وصل عددها الـى ألف شخصية توزعت بين ممثلين مشهورين ومنتجين وشخصيات من ابتكاره، وقد إهتم المتحف بصيانتها وحمايتها من الأضرار والتلف، وقام بضمِّ تسعة وعشرين عملاً منها لمجموعته الدائمة.
يا للرجل الذي جعلني سعيداً ومنحني فرصة إستعادة طفولتي أيضاً بين الأفلام التي أحببتها. ساعتين من المتعة والعيش وسط هذا الجمال والتجول بين عوالم برونيه، لأتوقف في النهاية أمام النموذج الذي بناه المتحف بشكل خاص كمحاكاة لواجهة بيت برونيه ذاته، والتي جعلها بهيئة استوديوهات هوليوود. خرجتُ من المعرض وأنا أسير بين ضوء وظلال الشخصيات الواقفة كإنها تهتف بإسم برونيه، وعرفتُ أن المبدع يجب ان يكون مختلفاً، وأن الخيال والجنون هما الرئتان اللتان يتنفس من خلالهما الفنان هواء الابداع والعبقرية والجمال.