بغداد / تبارك المجيد
منذ ساعات الصباح الأولى، يتجول أحمد، الطفل ذو الثامنة، بثياب متهرئة بين المقاهي والمطاعم التي تستقبل الطلاب والموظفين. يتحرك بين الطاولات باحثًا عن نظرة تعاطف أو لمسة من الشفقة من أحد الجالسين، متشبثًا بأمل بسيط في أن يلقى دعمًا أو مساعدة. يعكس أحمد، ذو الثامنة ربيعاً، واقع آلاف الأطفال في العراق الذين حرموا من حقوقهم الأساسية، ومنها حق الترفيه، سواء داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها. هؤلاء الأطفال يعانون من نقص كبير في البنية التحتية التي تدعم الأنشطة الترفيهية، مما يحرمهم من فرص التمتع بطفولتهم بشكل كامل. وترجع أسباب حرمان الأطفال من طفولتهم إلى الواقع الاقتصادي في البلاد.
في المدارس، يفتقدون إلى المسارح ودروس الرياضة، مما يحول يومهم الدراسي إلى ساعات طويلة من التعليم النظري البحت، دون أي فرص للترويح عن النفس أو التعبير عن إبداعاتهم. وخارج جدران المدارس، لا يجدون أماكن مخصصة للعب أو نشاطات ترفيهية تلبي احتياجاتهم النفسية والاجتماعية. هذا النقص في الترفيه ينعكس سلباً على نموهم وتطورهم، مما يضع العراقيل أمام بناء جيل متوازن ومبدع، وفقًا لمراقبين.
مرحلة إظهار الإبداع
يتحدث علي حاكم، ناشط في مجال التعليم ومؤسس المدرسة الحرة لتعليم الأطفال بأساليب مبتكرة، عن الأهمية البالغة لفترة الطفولة في حياة الإنسان. يقول إن “فترة الطفولة تتشكل فيها غالبية قدرات الطفل على الإبداع والاكتشاف، إلى جانب بناء سلوكه وشخصيته”، لافتًا إلى وجود اهتمام “مفرط بالتعليم والتحصيل الدراسي خلال هذه الفترة، بالشكل الذي يؤدي إلى إهمال الأنشطة الترفيهية والإبداعية الضرورية لتطوير شخصية الطفل”.
يوضح حاكم لـ(المدى) أن “المؤسسات التعليمية الحكومية حصرت دورها في تقديم التعليم الأكاديمي فقط، مما يجعل الطالب ينفر منها بسبب الروتين والواجبات المنزلية”. وأضاف أن “الأنشطة الترفيهية مثل المسرح، ودروس الرياضة والفنون، والأنشطة اللامنهجية تشهد تراجعًا ملحوظًا، مما يؤثر سلبًا على تطور الأطفال بشكل متوازن”، مطالبًا بـ”ضرورة دمج الفن في المسيرة التعليمية لتحقيق توازن بين التعليم الأكاديمي وتطوير شخصية الطفل”.
ويشدد حاكم على أهمية دمج التعليم بالترفيه، قائلاً: “هذا التكامل يساهم في بناء جيل قادر على الابتكار والتفاعل الإيجابي مع محيطه”، ودعا “المؤسسات التعليمية إلى توفير بيئات مشجعة على الإبداع من خلال تعزيز الأنشطة الفنية والثقافية والترفيهية”. وعن دور القطاع الخاص، بين حاكم أنه “يفترض أن يلعب دورًا مهمًا في تقديم مشاريع تعليمية وترفيهية غير رسمية تكون ممتعة للأطفال، إذ إن الكثير من الأساليب التعليمية الناجحة في الدول المتقدمة تعتمد على الربط بين اللعب والترفيه والتعليم، مما يجعل المدارس مكانًا جذابًا للأطفال”.
وتابع قائلاً: “بعض الدول تعتمد على تحويل المدارس إلى مراكز ترفيهية خلال العطلة الصيفية، مما يعزز رغبة الأطفال في الذهاب إلى المدرسة حتى في أوقات الإجازة. مثل هذه المبادرات تسهم في بناء علاقة إيجابية بين الطفل والمؤسسة التعليمية، مما ينعكس إيجابًا على تحصيله الدراسي وتطوره الشخصي”.
وفي سياق حديثه عن التجارب الدولية، أشار حاكم إلى أن العديد من الدول الخليجية والعربية والأجنبية تشارك في بطولات عالمية وفعاليات تستهدف فئة الأطفال، بينما تقل هذه المشاركات في العراق. وأكد على الحاجة الماسة لتطوير برامج وطنية تعنى بالطفولة في العراق، تنطلق من المؤسسات الحكومية وتنتقل إلى القطاع الخاص لتعزيز الأنشطة الترفيهية واللامنهجية.
الترفيه ودوره في تنمية الطفل
يرى الأكاديمي حيدر ناصر، وهو أستاذ جامعي، أن “الترفيه يعتبر أحد الطرق المهمة التي تساعد في تطور الطفل وتضمن نموًا سليمًا، بالإضافة إلى أنه يساهم في تكوين شخصيته المتميزة والمستقلة والتعبير عن ذاته واكتشاف مواهبه ومهاراته”. يوضح ناصر لـ(المدى) أن “الترفيه يُمكّن الطفل من اكتشاف الجديد من حوله، وزيادة خبراته وإدراكه وقدراته الجسدية والحركية والاجتماعية، مما يجعله مستمتعًا بالحياة ومستعدًا ليكون منتجًا”.
وأشار إلى أن “الترفيه يتضمن أنشطة عديدة، فردية وجماعية، تساعد الفرد على التخلص من الطاقة السلبية والتوترات، وتوجهها نحو أنشطة إيجابية تلبي احتياجاته وتشعره بالرضا والراحة النفسية، مما يعينه على إنجاز مسؤولياته وزيادة إنتاجيته. إذ إن الترفيه يسهم في تجديد الهمة والقضاء على الملل والفراغ”.
وأوضح أن الأنشطة الترفيهية المدرسية تساعد الطلاب على استخدام إبداعاتهم وتطوير خيالهم وبراعتهم وقوتهم البدنية والمعرفية من خلال اللعب والمشاركة مع أصدقائهم. وأكد أن هذه الأنشطة تسمح للطلاب باستكشاف عالم يمكنهم إتقانه والتغلب على مخاوفهم، مشيرًا إلى أهمية البرامج الترفيهية التي تطبقها بعض المدارس وتأثيرها الإيجابي في نمو الطلاب نمواً متزناً متكاملاً. وأعرب ناصر عن قلقه من غياب الأنشطة في المؤسسات التربوية، خاصة في ظل ما يشهده الوسط التربوي من كوارث وارتفاع في نسبة تعاطي المخدرات والمشروبات الكحولية. وأكد أن تراجع التعليم في العراق لا يعود فقط إلى الأساليب التقليدية السائدة منذ سنوات طويلة، بل يتأثر أيضًا بغياب وسائل الإيضاح مثل شاشات العرض والمختبرات وغيرها.
أهمية الأنشطة الترفيهية
في ذات السياق، تطرقت سميرة الخفاجي، وهي تدريسية، للحديث عن أهمية النشاط المدرسي الترفيهي كعنصر حيوي في العملية التربوية، مؤكدة أن “هذه الأنشطة تلعب دورًا أساسيًا في صقل شخصية الطالب وتعزيز مداركه بطرق غير تقليدية، وهو ما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من التعليم الفعال”.
وتشير خلال حديثها مع (المدى) إلى وجود استغلال غير مثمر لمادتي التربية الفنية والرياضية في المدارس: “أغلب المدارس تقوم باستبدال هاتين المادتين بدروس علمية أخرى، بحجة التأخر عن المنهج الدراسي، خاصة مع الصفوف المنتهية. هذا الاستبدال يساهم في تجاهل الأهمية الكبيرة لعامل الترفيه، الذي يساعد الأطفال على تطوير مهاراتهم الاجتماعية وتعزيز قدراتهم البدنية. كما يوجد نقص في وعي الكوادر التربوية حول أهمية اللعب كحق أساسي من حقوق الطفل، كما نصت عليه المادة 31 من اتفاقية حقوق الطفل”. وتنص هذه المادة على حق الطفل في الراحة ووقت الفراغ، ومزاولة الألعاب والأنشطة الترفيهية المناسبة لسنّه”.
وتبرز الخفاجي مشكلة أخرى تتعلق بالسفرات المدرسية التي غالباً ما تكون غير مجانية: “هذا الأمر يمنع بعض الأطفال من المشاركة بسبب الوضع المادي الضعيف لأسرهم أو بسبب مخاوف الأهل على سلامة أبنائهم، مما يؤدي إلى رفض المشاركة في هذه الأنشطة”. وترى أن “العطل المدرسية أيضاً لا تُستثمر بشكل صحيح، حيث يقوم بعض أولياء الأمور باستخدامها كوقت إضافي للدراسة أو كعقوبة للأطفال الذين أخفقوا في بعض المواد الدراسية. وفي بعض الحالات، تُستخدم العطل كفرصة للحد من الأنشطة الاجتماعية والبدنية للأطفال، مما يجعلهم يقتصرون على استخدام الهواتف المحمولة والعزلة المجتمعية”. من جهة أخرى، تشير إلى أن “أولياء الأمور الميسورين يشركون أبناءهم في نشاطات بدنية وترفيهية مثل السباحة والرياضة والموسيقى، والتي تعوض الأطفال عما فاتهم من فرص لتحفيز طاقاتهم البدنية، فيما يحرم بقية الأطفال من هذه الحقوق”. وطالبت بتحسين الواقع المعيشي وتوفير أنشطة ترفيهية تشرك جميع الطلبة دون استثناء.
معاناة الأطفال في العراق
ويغيب المئات من الأطفال في العراق عن مقاعد الدراسة بسبب صعوبات الوصول، والتي تعود إلى عدم القدرة على تحمل التكاليف أو نقص البنية التحتية، خاصة في مناطق القرى والأرياف. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الكثير منهم من الحرمان من خدمات الصحة المجانية. كما أن هناك العديد من الأطفال يعملون في سوق العمل أو يُجبرون على الانضمام إلى عصابات إرهابية، مما يعزز من معاناتهم ويزيد من تعقيد أوضاعهم.