TOP

جريدة المدى > عام > ذكرياتنا الصادمة:هل نحفرُ فيها أم ندفنها في الأعماق؟

ذكرياتنا الصادمة:هل نحفرُ فيها أم ندفنها في الأعماق؟

نشر في: 28 أغسطس, 2024: 12:11 ص

جوني ثومسُن*
ترجمة: لطفية الدليمي
اعتمد الفيلسوف الالماني إيمانويل كانت معظم حياته على خادم رجل يعتني بشؤونه المنزلية. كان اسمُ الرجل (مارتن لامب)، وقد عُنِي به كانت عناية كبرى واهتمّ بأدق تفاصيل معيشه اليومي. عُرِفَ عن كانت صرامتُهُ وتقشّفُهُ؛ لذا فإنّ رعايته الاستثنائية لخادمه لم تكن لتنسيه كونه فيلسوفاً تتأسّسُ فلسفته الكاملة على فعل الامر الصائب. لأربعين سنة حافظ الاثنان (الفيلسوف وخادمه) على مواثيق العلاقة الطيبة بينهما حتى اشتبكت حياة أحدهما بالآخر اشتباكاً وثيقاً يكاد يستحيلُ معه فكّ الروابط المتينة بينهما. حافظ كلّ منهما (كانت: الفيلسوف ذو المزاج الصارم، وخادمُهُ المخلص في أداء واجباته إلى أبعد حدود الاخلاص) في ديمومة العلاقة الوثقى بينهما؛ لكن حصل ذات يوم أن انقلبت موازينُ العلاقة الطيبة التي تجمعهما لسبب غير معروف بالتحديد. التاريخ من جانبه لا يقدّمُ لنا تسويغاً قاطعاً بشأن التفاصيل التي أطاحت علاقة الود المتبادل بينهما، ربما قد يكون أحد الاسباب ثمالة جاوزت الحدود المقبولة أو فعل سرقة اقترفه الخادم. كان الفعل من السوء حيث لم يبق أمام كانت من سبيل سوى صرف خادمه. هذه الفعلة قادت كانت لأن يستحيل كائناً محطّماً. العيش المستديم لأربعين سنة غير منقطعة مع إنسان آخر هو أمرٌ أقربُ لعلاقة محبّة متأصلة، وصرفُ مارتن الخادم كان أقرب لعملية طلاق بين زوجين؛ لذا عمد كانت إلى كتابة ملحوظة على قصاصة من الورق وضعها أمام ناظريه على مكتبهِ لتكون مرئية له دوماً. كتب على القصاصة "إنسَ مارتن"؛ لكنه لم يستطعْ نسيان مارتن أبداً.
قد يبدو الامر مع ما فعله كانت سخيفاً، وهو بالطبع كذلك. أنت لن تستطيع بسهولة دفعَ ذاتك لنسيان شيء ما أو أحدٍ ما. الحقيقة هي أنّك كلما جاهدتَ أكثر في فعل النسيان فسيكون الامر أشقّ عليك؛ لكنّك تستطيعُ في أقلّ الافعال الممكنة أن تكبح نفسك عن إعادة بثّ الحياة في ذكرياتك التي تسعى لنسيانها. عندما يحصل لك أمرٌ سيئ، حتى لو بلغ حدّ الصدمة القاسية، فكم يتوجّبُ عليك محاولةُ المضي في حياتك من غير تلفت إلى الماضي؟ وكم يتوجّبُ عليك محاولة فك ارتباطك بذلك الماضي المكتنف بالصدمات النفسية القاسية؟ ليست لديّ شهادة جامعية في علم النفس، ولستُ معالجاً نفسياً؛ لذا سأعتمدُ مقاربة فلسفية في معالجة هذه المعضلة وسأطرحُ سؤالاً: كم هي أهمية ماضينا بالنسبة لمستقبلنا؟ هل كان يتوجّبُ على كانت محاولةُ نسيان مارتن أم حملُ ذاكرته المؤلمة لتصبح جزءاً لا ينفصل من كينونته؟ هل ينبغي للمرء أن يتخلى عن ماضيه أم ينقّبَ في أعماقه ليواجه أحداثاً ماكثة في قعر النسيان؟
ولأجل أن نجيب على أمثال هذه التساؤلات (ولها نظائر عديدة بالتأكيد) سننظرُ ملياً في جوابيْن مختلفيْن ومتقاطعيْن بكيفية متطرفة. الجواب الاول يقدّمه لنا فريدريك نيتشه، الذي يرى بأنّ التناسي، أحياناً، هو فعلٌ ينطوي على خلق الذات Self-Creation. الجواب الثاني يقدّمه لنا إدموند برك Edmund Burke، وهو جواب مثير للفضول وربما يمثلُ رأياً يحتملُ محاججة إشكالية. يرى برك أنّ إعادة بعث الحياة في ماضينا، أحياناً، هي تجربة محببة وتستحقُّ عبء محاولة تجربتها.
نيتشه: عِشْ مثل الحيوانات
للفلاسفة علاقة مدهشة مثيرة للفضول مع الحيوانات. بعض الفلاسفة مثل جون ستِوارت مِلْ يرون الحيوانات مصدراً باعثاً على الشفقة. عندما كتب مِلْ:"من الافضل للمرء أن يكون إنساناً غير راضٍ بحياته من أن يكون خنزيراً سعيداً بحياته" فهو إنّما كان يحاججُ بأنّ الذكاء البشري والمَلَكات العقلية العليا للإنسان هي ما يمكنُ أن تجعلنا سعداء بطريقة فائقة لتصورنا؛ لكن في ذات الوقت الذي أورد فيه مِل ملاحظته السابقة كان نيتشه يقدّمُ أطروحة حجاجية مناقضة تماماً لأطروحة ملْ. كتبَ نيتشه في هذا الشأن:
راقب الماشية التي تعتاشُ على العشب القريب منك. إنها لا تعرفُ ما عساه الامس أو اليوم أن يكونا. إنها تتنقّلُ في المكان بحريتها الكاملة، تأكل، ترتاح، تهضم ما أكلت، ثم تعيد الكرّة متى ما شاءت من الصباح إلى المساء وعلى مدار كلّ الايام. كلّ ما تحبّه أو تكرهه منوطٌ بصورة وثيقة مع حالها في لحظتها الحاضرة التي تعيشها. لا تعرف الكآبة السوداوية (الميلانخوليا) أو الارهاق النفسي طريقاً إليها. أن يكون الانسان شاهداً على هذه الحالة أمرٌ عسيرٌ عليه لأنّه عزّز في دواخله فكرة أنّ الانسان أفضل من الحيوان؛ وبرغم ذلك ترى الانسان ينظر الى الحيوان بنظرة حاسدة مَردُّها سعادة الاخير…..
توجد حالةٌ من الراهنية الداخلية في عيش اللحظة الحاضرة لدى الحيوان. الحيوانات ليست مهمومة بقلق الماضي، وهي لا تهتمُ بأخطاء الماضي والمنعطفات غير الصائبة في تاريخها. هي لا تدرك شيئاً سوى المضي قدماً في حياتها. الحيوانات لا تحني أجسادها حتى تلامس الارض بسبب "العبء المظلم وغير المنظور" لذاكرتها، وبدلاً من ذلك هي تعيشُ ما يدعوه نيتشه "نمطاً لا تاريخياً". التاريخ ليس بذي قيمة لها. بالطبع ما مِنْ أحدٍ يستطيع عيش حياة ذات معنى من غير تذكّر أشياء أو وقائع محدّدة إلى حدودٍ ما في الاقلّ مهما تضاءلت تلك الحدود. الابقار قد تقضي يومها بكامله وهي تمضغُ الحشائش؛ لكنّي لستُ بقرة، وليست لي القدرة على تغيير هذا الواقع (كينونتي البشرية). جوابُ نيتشه هو نوعٌ من إعادة التكييف العقلي التي تنطوي في ثناياها على ستراتيجية عون ذاتي مفيدة. تصوّر الماضي وكأنّه موردٌ من المنافع التي يتوجّبُ التنقيب عنها واستغلالها.
لديك مكتبة كاملة من الذكريات، بعضها صادم، وبعضها الآخر باعث على البهجة. بعضها عديم الفائدة ولا غاية فيه، وبعضها ينطوي على فائدة عظمى. يرى نيتشه أننا يجبُ "أن نقسر الماضي على أن نأخذ منه ما نريده حسب، نستعيدُ ما هو مصدرُ بهجة وسعادة لنا". نحنُ -كبشر- بوسعنا استخدامُ الماضي واستعادته في حياتنا مثل إكسير الحياة الشافي؛ لكن لو كان الماضي سُمّاً يضعِفُ حياتنا فحينئذ يتوجّبُ علينا نسيانُهُ والمضي قدماً في الحياة.
لذا فإنّ كلاً من دي ونيتشه سيسأل: هل احتفاظك بسجلّ يومياتك الماضية يجعلُ منك كائناً أفضل وأقوى، يحيا حياة أكثر امتلاءً؟ لو كان الجواب بالايجاب فامضِ وواظب على تدوين يومياتك التي ستصبح ماضياً في يوم ما. تنفّسها واجعلها "تذوب في سائل دمك". أما لو تركتك مكسور الفؤاد، خائفاً، متوتراً ماكثاً تحت أعباء ثقيلة فانسَ أمرها ببساطة.
بِرك: جمالُ الذكريات الصادمة
قبل قرنٍ أو ما يقربُ من القرن قبل نيتشه يقدّمُ الفيلسوف الانكلو-ايرلندي إدموند برك Edmund Burke مقاربة مثيرة حول موضوعة الماضي الأليم. كتب متسائلاً: ماذا لو كانت ثمّة منفعة جمالية من استعادة ذكرياتنا الصادمة؟ بالنسبة لِـ (برك) فإنّ "السامي The Sublime" هو خبرة جمالية قادرة على اجتراح الغبطة Delight في أنفسنا. قصد برك بالغبطة أمراً يختلف عن البهجة Pleasure. قصد "نوعاً خاصاً من الرعب اللذيذ، شكلاً من سكينة الروح العميقة المقترنة بالهلع، السكينة التي وهي تسعى للحفاظ على الذات فهي تمثلُ أقوى أشكال الشغف التي يمكن أن يختبرها المرء في كلّ حياته. الغاية من الغبطة هي البحث الحثيث عن السامي". ما قصده برك بالسامي أمرٌ شبيه بالوقوف أسفل شلال مياه عظيم دافق وسط عاصفة رعدية كاسحة. إنها الهتافات الصاخبة التي تصدح بها الحناجر وسط الملاعب الرياضية الضخمة. إنها ما تشعر به وأنت تطيل النظر في سعة الليل المرصّع بالنجوم. إنها تذوّقٌ وتقدير عالٍ للحوادث المقترنة بالفظاعة وأنت ماكثٌ في موضع آمن.
الخبرات الصادمة والماضي الكسير أمران ينطويان على الفظاعة. إنّهما ممزقان للحياة، وغالباً ما يجعلان حياة المرء كسيرة وكأنها عبء ثقيل على القلب. لكن يتوجّبُ في كل الاحوال أن لا نتغافل حقيقة أنهما ماضٍ مضى وانقضى ولم يعودا -في ذاتهما أو بمفاعيلهما الجانبية- مصدر تهديد لنا؛ لذا عندما نحفرُ عميقاً ونتأمّلُ في هذه التجارب الصادمة فنحنُ نشهدُ لحظة نتقابلُ فيها مع "السامي" في حياتنا. نحنُ في هذه البرهة نجد أنفسنا منجذبين نحو الجمال الرهيب لمكامن الظلام في دواخلنا. نحنُ كلّما استذكرنا ذكرياتنا الماضية الصادمة نكون كمن أزال قشرة الجرح الخارجية لكي يعيد عيش تلك الذكريات لأننا نجدُ متعة جمالية في هذا الامر. اللذة المازوخية التي نتحصّلُها من الحفر عميقاً في تجاربنا الماضية ليست بالحكمة الجديدة؛ إذ غالباً ما نجدها في الفلسفة القديمة وكذلك لدى فرويد؛ لكنّ مقاربة برك لها بكونها نوعاً من التجربة الجمالية الرهيبة تبقى مثيرة وغير مسبوقة. إنها تتعاملُ مع ماضينا كلُقيةٍ آثارية يتوجّبُ علينا تقديرها حقّ قدرها تماماً مثلما نفعل مع قطع آثارية نفيسة مركونة في المتاحف.
ذكرياتنا الصادمة: نحفرُ فيها أم ندفنها عميقاً؟
كما هو الحال السائد غالب الاحوال في مثل هذا النوع من المعضلات فإنّ الكثير من طبيعة الاختيارات يعتمدُ على ما لا نعرفه (بمعنى ما نجهله). نحنُ لا نعرف تماماً ما هي "التجارب السيئة" التي يحكي عنها أحدهم، كما لا نعرف ما الذي يحدث داخل عقله عندما يستذكرُ هذه الذكريات.
في ختام هذه المناقشة أعتقدُ أنّ نصيحة نيتشه تبدو لي متماسكة متينة التسويغ. إنها ترقى في جوهرها للخبرة التي يحتويها المَثَلُ القائل:"إذا وجدت نفسك بحال أفضل عند نسيان تاريخك فانسَهُ، ولو جعلك أقوى فتذكّرْهُ". يصحُّ هذا الامر مع الوقائع اليومية مثل الاحتفاظ بدفتر يوميات تواظبُ على الكتابة فيه، أو الحديث مع الاصدقاء. يمكن ان يخدم استذكار الماضي أيضاً كعلاج نفسي. ذكرياتنا في النهاية هي ليست سوى حكايات، والحكايات تبدو فعالة كعلاج نفسي كما دلّتنا خبرة متراكمة. كلّ من أعرفه تقريباً من الاصدقاء وسبق له التعامل مع ذكرياته كحكايات ذات محتوى علاجي أكّد لي نجاح هذه التجربة وأنّه إجتنى منها فائدة كبرى على المستويين العقلي والنفسي. لكنّ اختبار نيتشه يمكن توظيفه بنجاح أيضاً. عقب ستّة أشهر أو سنة أو أي زمن آخر سيكون من المفيد لك أن تتساءل:" هل أنا اليوم شخصٌ أفضلُ من ذي قبلُ بعد أن ألِفْتُ الحديث عن ماضيّ؟". لو كان بالايجاب فالمنطقي أن تمضي في حديثك هذا؛ أما لو كان الجواب سلبياً فربما يكون الوقت قد حان لك لكي تجرّب أمراً آخر. ربما آن الأوان لكي تنسى تاريخك بدلاً من المضي في المعاناة المترتبة على استذكاره.


  • جوني ثومسُن Jonny Thomson: درّس الفلسفة في جامعة أكسفورد لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يتفرّغ للكتابة. يكتب في موضوعات الفلسفة واللاهوت (الثيولوجيا) وعلم النفس (السايكولوجيا)، وأحياناً يتناول أيضاً موضوعات أخرى. حاز كتابه الاول Mini Philosophy على مقروئية واسعة وتُرجم إلى عشرين لغة صار من أفضل المبيعات (البيستسيلر). نُشِر كتابه الثاني Mini Big Ideas عام 2023.
  • عن موقع: Big Think من سلسلة (Everyday Philosophy) حزيران 2024

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مخلص خليل: الشعر والبحر

صورة الشعر.. دفاتر ضياء العزاوي

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

أحتسي فراغَهُ وأرتِّل

ذكرياتنا الصادمة:هل نحفرُ فيها أم ندفنها في الأعماق؟

مقالات ذات صلة

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي
عام

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي

د. نادية هناويالقسم الأوليذهب ستيفن كايف وكنتا ديهال في تحريرهما كتاب(تخيل الذكاء الاصطناعي: كيف يرى العالم الآلات الذكية؟) 2023 إلى أن مفردة(ذكاء) سردية، ما يزال العلم إلى الآن لم يثبت حقيقتها الدالة بشكل علمي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram