رشيد الخيُّونغيب البين الباحث والأكاديمي والمحقق محمد حسين الأعرجي. في الأواخر مِنْ كانون الأول (ديسمبر) 2010، سمعت النبأ بكآبة وحزن عميقين، ليس لأنه الصَّديق الودود، القريب إلى النَّفس، بل لأنه خسارة في وقت الحاجة لأمثاله، فعندما نُقلب في المشهد الثَّقافي العِراقي، وما فيه مِنْ تدهور ملحوظ، يُفتقد مثقف مثل الأعرجي،
زان المكتبة بعدة مؤلفات وعدة محققات، مِنْ نوادر المخطوطات وأمتعها لعين القارئ وفائدة لذهنه. يزداد الشُّعور بالخسارة إذا علمنا أن الدُّكتور الأعرجي مِنْ ولادات 1949، بمعنى أنه مازالت أمامه فسحةً مِنْ الزَّمن يبحث ويكتب فيها، ويقف عموداً مِنْ أعمدة الثَّقافة العِراقية،مع كبار مازالوا يعاندون التراجع في القيم الإنسانية والثَّقافية، شحة في الأداء وركة في الأسلوب وفوضى في التّأليف، مازال لدى فقيدنا الأعرجي الكثير مما لم يكتبه ويحققه ويقوله بعد. كنت أسأل عن سبب غيابه أو انقطاعه عن الكتابة فجاء الخبر لمعاناته مِنْ المرض الذَّي لا يرحم، وإخضاعه لعدة عمليات جراحية، وكنت أظن لسبب آخر.آخر لقاء بالأعرجي كان العام 2007 في مهرجان مؤسسة المدى بأربيل، وعلى مصطبة مركونة على الرَّصيف جلسنا نتحدث عمَّا مضى وما سيأتي، وكان له أحلام ورؤى يسعى لتحقيقها، سواء كان في كليته التي عاد إليها بعد انقطاع أكثر مِنْ عقدين، أو في المجلة (المورد) التي تسلم رئاسة تحريرها، كان منشياً بالأمل على الرَّغم مما يحيطه وأهل الثَّقافة الأصيلين داخل بغداد مِنْ غمام أخذ يتكثف يوماً بعد يوم. كان مغرماً بمحمد مهدي الجواهري(ت 1997) إلى حد ضيق سامعيه لكثرة ما ينقل عن الجواهري، ولا نعجب فهناك مَنْ يسمع شعر الجواهري ولا يود سماع أخباره، وليس الجواهري منفرداً بهذه الخصاصة إنما كبار قبله وبعده، للنَّاس فيهم مذاهب. هذا ما شعرته وأنا بصحبته لأكثر من عشرة أيام بأربيل والسليمانية (تشرين الأول 2000)، عندما عبرنا متسللين من القامشلي إلى بلادنا حيث الخابور، لاحتفالية عرض عنها العرب فتبناها مواطنوه الكُرد آنذاك.قال لي الأعرجي، وانقله بتصرف: لما أصدرت كتاب "التمثيل عند العرب"، وكان عمري لا يتجاوز العشرين، لحظني أستاذي الناقد والمحقق والأكاديمي، الذائع الصيت، علي جواد الطَّاهر (ت 1996) بأنني لست على ما يرام، بمعنى دخلني شيء مِنْ النَّشوة، التي فسرها الطَّاهر على أنها ضرب مِنْ الغرور فخشي عليَّ مِنْ عاقبتها. وعندها استدعاني وقال لي: محمد حسين إذهب إلى المكتبة (كلية الآداب) وتجول بين رفوفها ثم تعال! استغربت مِنْ الأمر، وأخذت أضرب أخماساً بأسداس، ما هو المقصد! وماذا يدور في مخيلة أستاذي! لم أسأله بل امتثلت للأمر وذهبت أنظر في رفوف المكتبة، التي تحوي الألوف المؤلفة مِن الكتب!قال الأعرجي: عدت إلى أستاذي الطَّاهر - لم يذكره بلا لقب أستاذي- فأمرني بالجلوس إلى جواره، وقال: كم شاهدت مِن الكتب! قلت له: ألوف! ومَنْ هم المؤلفين! قلت: الكبار والصغار! عندها قال: أتعتقد أنك المؤلف الأول، أو أن كتابك هو الأخير في دنيا التأليف! ألتفت إلى نفسك، فقد سبقك أصحاب الفضل، وما كتابك هذا إلا بداية لعمر مديد ينتظرك!هذا الكلام، الذَّي اخبرني به الأعرجي، ومثله هو سيصير فرحه وغروره في داخله لا يظهره فضلاً به ونوالاً ومنةً على الآخرين، أفاد سواه مِنْ أمثالي وغيري، وبالفعل عندما تنظر إلى سِفر "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمؤرخ العراقي الكبير جواد علي (ت 1987)، أو ما صنفه المؤرخ العراقي الكبير عبد العزيز الدَّوري، وما صنفه وحققه كبار آخرون يشعرك بالصغر، لا إهانة للذَّات أو إنقاص منها إنما محاولة للوصول إلى ما عبر عنه إبراهيم بن سيَّار النَّظام (توفى بين 221 -231): "العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فأنت من عطائه لك البعض على خطر"(البغدادي، تاريخ بغداد).أين التبجح بالألقاب العلمية الكاذبة اليوم، وما يشاع في الوسط العراقي مِن العلامة والعالم والخبير، وكلها أكاذيب بأكاذيب، إلا ما مَنْ حوى ذلك اللقب بقوة ساعد وجهد قلب، مِنْ وصية شيخنا الطَّاهر ومِنْ قبله شيخ المعتزلة وفيلسوفهم! في زمن انهيار القيم، واحتلال المقاعد، في التزعم الأكاديمي والبحثي، مِنْ غير كفاة، يزيد الوجد على غياب محمد حسين الأعرجي، وقد تتلمذ على يد محمد مهدي المخزومي(ت 1993) وعلي جواد الطَّاهر، وهو في عزِّ عطائه العلمي.ما لاحظته ولاحظه سواي في كتابة محمد حسين الأعرجي أنه كان صاحب عبارة أنيقة وأسلوب رشيق، ومعلومة موثقة في البحث والكتابة الجادة، وفي مقالاته، مِنْ غير البحوث، تجد منها ما لا يشغلك موضوعها بقدر ما تستأنس بتناسق الكلام ومتانته، وهو ليس محل إعجابي وإعجاب جمهرة مِنْ المثقفين العراقيين حسب بل نال إعجاب علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر (ت 2000)، صاحب مجلة "العرب"، وهذا الرَّجل بالنسبة لبلاده بمثابة الأب العلامة أنستاس الكرملي (ت 1947) للعراق.أتذكر، في أواخر التِّسعينيات من القرن الماضي، حرضني الأعرجي للنشر في مجلة الجاسر، وقد حدثني عن التقليد الحضاري الذي أرساه في المجلة، وذاك ما يفتقده العديد من المجلات المعروفة للأسف، من إهمال المواد وتأخر نشرها، وعن الالتزام بالاتفاق بين الكاتب والمجلة، ف
فقدناه باحثاً ومحققاً ..الأعرجي ..صاحب العبارة الأَنيقة والمعلومة الموثقة!
نشر في: 7 يناير, 2011: 04:33 م