عقيل عباس
في هذه الأيام، وسط احتدام الجدال العراقي بخصوص تعديل قانون الأحوال الشخصية، تأييداً أو رفضاً، يبرز سؤال الشرعية ومعناها في سياق دولة حديثة تتزعمها حركات إسلامية سياسية شيعية تنتمي إلى التراث الديني، ولم تتصالح على نحو حقيقي مع الحداثة التي أنتجت الدولة التي تحكمها هذه الحركات.
تمثل الدولة شرعية أرضية - جغرافية لا تتعلق بالأفكار أو الإيمان، إنما بصدفة مكان الميلاد: يولد المرء في بلد اسمه العراق أو مصر أو تركيا أو ألمانيا أو الهند، ليصبح أوتوماتيكياً مواطناً عراقياً أو مصرياً أو تركياً أو المانياً أو هندياً. لا يحتاج إلى أن يتأهّل أو يبرهن شيئاً سوى حقيقة الولادة في المكان (باستثناءات محدودة تتعلّق غالباً بالأجانب)، ليستحق المواطنة ويحصل على الحقوق المرتبطة بها (جواز سفر، حمايات الدولة، فرص تعليمية ومهنية… إلخ). وعبر تجربة الحياة والتفاعل والعيش المشترك مع الآخرين المتشابهين والمختلفين في هذا المكان، يُطور "المواطن" حسّاً بالانتماء إلى البلاد تتحوّل عبره هذه الأخيرة إلى ما يُطلق عليه "الوطن"، أي الصلة العاطفية والمصلحية المشروعة بالبلاد. تنشأ من كل هذه التجربة (بالأفكار والمشاعر والمصالح والعلاقات المرتبطة بها) إجراءات وأنظمة وقوانين عبر الدولة التي تُدير العلاقة بين المواطنين على اختلاف توجّهاتهم. وتكتسب هذه الإجراءات والأنظمة والقوانين شرعيتها من خلال التعاقد العام بين الدولة ومواطنيها (يكون هذا التعاقد عادةً من خلال الدستور الذي ينتج نظاماً سياسياً يُدير تفاصيل التعاقد ويشرف عليه ويحميه) لتصبح عبره الدولة مصدر الشرعية.
في اللغة الدينية، في مختلف المذاهب الإسلامية التي تستخدمها، تُعتبر القوانين والإجراءات والأنظمة الناتجة من هذه التجربة وضعيةً، في وصف يُقصد منه النظر بسلبية بوصفها فاقدةً للشرعية، إلّا في حالة موافقتها القوانين والأنظمة الإلهية التي تعتبرها المذاهب الدينية المصدرَ الحقيقي والوحيد للشرعية. في التراث الديني، ارتبطت الشرعية، سنّياً وشيعياً، بالشريعة أو ما أُطلق عليه لاحقاً في العصور الحديثة "الشريعة الإسلامية"، وهي اكتشاف معرفي بدأ يتشكّل تدريجياً منذ أواسط العهد الأموي (القرن الثاني الهجري) إلى أن اكتمل هذا التشكيل في شكله الأساسي، وليس النهائي، الذي وصلنا اليوم في أواسط العصر العباسي (القرن الخامس الهجري)، إذ تأخّر التشكيل الشيعي للشريعة عن التشكيل السنّي لها بسبب البروز المتأخّر للفقهاء في التشيّع كصنّاع للأحكام الفقهية إلى عصر ما بعد الغيبة، أو ما يُسمّى نهاية عصر الأئمة المعصومين (الثلث الأخير تقريباً من القرن الثالث الهجري). تضمّنت "الشريعة" منظومة أحكام فقهية تغطي كل مناحي الحياة تقريباً، على أساس فرضية أساسية، برزت في القرن الثاني الهجري، وأصبحت حاكمة على كل التفكير الديني الإسلامي إلى الحاضر، مفادها أن لله حكماً في كل الأفعال البشرية، وأن مهمّة الفقيه هي الوصول إلى هذا الحكم بتوظيف النصوص الدينية، القرآنية والنبوية، واستخدام القواعد العقلية عند الحاجة. عنى هذا في آخر المطاف تقسيم كل الأفعال البشرية الممكنة إلى خمسة أنواع أو ما يُسمّى الأحكام الخمسة أو التكليفية (الواجب والمباح والمستحب والمكروه والحرام). قادت هذه القاعدة الأصولية إلى توسّع هائل في صناعة الأحكام الفقهية، حتى المتخيّلة منها (مثل كيفية الصلاة على القمر).
يُجمع الفقهاء، سنّةً وشيعةً، على أن الأغلبية الساحقة من أحكام الشريعة هي أحكام ظنّية، بمعنى أنها تأويلات يجوز فيها الصواب والخطأ، على عكس الأحكام اليقينية أو القطعية (عموماً الأحكام المنصوص عليها قرآنياً كالصوم والصلاة والحجّ والحدود المُعَبِرة على نحو متفق عليه عن إرادة الله). هذا وحده كافٍ لإثبات أن مجمل الشريعة ليس إلهياً، وأنها ليست تعبيراً عن إرادة الله، بل هي جهد الفقهاء واجتهادهم كبشر، وبالتالي هي وضعية على نحو شبيه بوضعية القوانين التي تأتي بها الدولة.
لم يعرف المسلمون، لا في العهد النبوي ولا الراشدي ولا في جزء كبير من العهد الأموي، شيئاً اسمه الشريعة، ولم يفهموا الإسلام هكذا (تشير كلمة "الشريعة" الواردة في القرآن الكريم إلى النهج/الطريقة وليس إلى منظومة أحكام فقهية). نشأت الشريعة، كمنظومة أحكام شاملة، وتطورت لأسباب تاريخية متداخلة بعضها معرفي (الصراع بين المتكلمين والفقهاء) وبعضها الآخر مؤسساتي واجتماعي (دمج الجماعات الأجنبية الجديدة التي أدخلتها حركة الفتوحات العسكرية ببنية الإسلام كدين ودولة الخلافة التي مثلته في إطار صناعة ثقافة مشتركة وضوابط عامة للسلوك وقواعد للتفكير). كانت قوة هذه الشريعة حينها مستمدّة من اعتبارها المصدر الوحيد للشرعية، وبالتالي القانون في سياق دول عصبوية متعاقبة (أموية، عباسية، أيوبية، حمدانية، عثمانية… إلخ) بنت شرعيتها السياسية على النسخ المختلفة، غالباً المذهبيّة، لهذه الشريعة.
مع بروز الدولة الحديثة في معظم العالمين العربي والإسلامي، خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى التي أكّدت هيمنة أوروبا الغربية كنموذج عالمي للسياسة وكيفية ترتيب الحياة العامة على أساس مفهوم الدولة الوطنية، انفصلت الشريعة التي مصدرها اجتهاد رجال الدين عن القانون الذي أصبح مصدره حكومات لا تعتمد الدين في صناعة تشريعاتها. بقي هذا الانفصال بين الحيزين الديني والدولتي قائماً على امتداد العقود والتجارب من دون تفاوض حقيقي بينهما، لتشكيل شرعية واحدة تُزيل التناقض بين الاثنين. فالشريعة مثلاً تؤمن بالسماء وليس بالأرض - الوطن ولا المواطنة، ولا تساوي بين الأفراد كمواطنين (مثلاً، المسلم أعلى منزلة من غير المسلم، والمؤمن الشيعي أعلى منزلةً من المسلم السنّي) بعكس الدولة الحديثة التي قامت على اشتراط هذه المساواة وربطها بمفهومي المواطنة والوطن. تحوّل هذا الانفصال إلى ما يشبه الانفصام الخطر مع تولّي أحزاب الإسلام السياسي الحكم في دول وطنية، لأنّ هذه النخب الحاكمة تؤمن بالشرعية الدينية فيما هي تحكم دولاً غير دينية.
تبرز هذه المشكلة في العراق هذه الأيام بأوضح صورها وأشدّها خطورة في سياق إصرار الإطار التنسيقي الحاكم، ابن الإسلام السياسي الشيعي، على اعتبار أن الشريعة مصدر لأحكام الأحوال الشخصية. الحجة الأساسية التي يستخدمها الإطار هي أنه لا يمكن القبول بقانون وضعي (قانون الأحوال الشخصية النافذ الآن رقم 188 المُشرّع في عام 1959) لأنه يناقض العقيدة الإلهية كما هو منصوص عليها في الأحكام الشرعية للمذاهب. هذه الحجة متناقضة وتمييزية، تقوّض المساواة وتقود إلى الظلم وضرب قيم إنسانية عالمية وأخلاقية. فمثلاً، يكتب السيد علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى الذي يتبعه معظم الشيعة العراقيين، في كتاب فتاواه "منهاج الصالحين" (الجزء الثالث، ص 10، المسألة 8، الطبعة 19، دار المؤرخ العربي، بيروت، 2013) التالي: "لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتقبيل والضم والتفخيذ فلا بأس بها، ولو وطئها قبل إكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى… ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية، ولكن الأحوط وجوب الإنفاق عليها كما لو كان الإفضاء قبل إكمال التسع…".
عموم هذا الحكم مشهور بين المذاهب الإسلامية بمختلف فقهائهم، ولا ينحصر بالسيد السيستاني، بل هو يتعلق بالبنية المعرفية والاجتماعية للفقه الإسلامي التقليدي، السنّي والشيعي. يتناول هذا الفقه النساء كأجساد بدون محتوى، سن البلوغ والحيض والحمل وإمكانية وأشكال التمتع الجنسي بهن وتقديمهن الخدمات… إلخ، وليس ككائنات بمشاعر وأفكار وظروف اجتماعية مختلفة، ولهن حقوق دستورية وقانونية. هذه مشكلة قديمة في الفقه، والآن يُعاد إنتاجها ويُراد تطبيع المجتمع مع التفكير بالمرأة بهذه الطريقة الجسدية والميكانيكية التي تنزع عنها انسانيتها، باسم العقيدة واتباع المذاهب.
ثمة إجماع واسع، شعبي وربما ديني، ويشمل حتى الحوزة الدينية في النجف، على أن حكم تزويج بنت التسع السنوات ليس مناسباً لعصرنا الحالي، ويفتح الباب على مشاكل كثيرة، اجتماعية قانونية ودولية للعراق، فضلاً عن تعريضه الفتيات الصغيرات للاستغلال والظلم. على الأكثر، في حال تبنّي تعديل القانون واعتماد أحكام الشريعة، لن يتمّ تبنّي هذا الحكم الفقهي تحديداً، تلافياً للإحراج والمشاكل، وسيُلجأ إلى رفع عمر زواج الفتيات بما يناسب قيم العصر الحالية. لكن رفض تبنّي هذا الحكم وتغيير عمر الزواج على أساس معايير "غير شرعية" نفسه يقول الكثير عن الشريعة وأحكام المذاهب: إنها قابلة للتعديل بحسب الزمان والمكان، وبالتالي ليست مقدّسة ولا ثابتة ولا إلهية، بل هي، كما هي حقيقتها، اجتهادات بشرية وليست إرادة إلهية.
هذا هو الدرس البديهي الذي يحتاج أن يدركه الإطار التنسيقي ويتصرّف على أساسه، وخلاصته هو أن الدولة، بقوانينها القائمة على تقدير المصلحة العامة وحماية المساواة ومعنى المواطنة- وليس الفقه أو الشريعة - هي مصدر الشرعية الوحيد. ينبغي أن تُصاغ القوانين على أساس المصلحة العامة للعراقيين، كمواطنين متساوين، وليس على أساس فقه ديني أُنتج في زمن سابق وقديم لمجتمع مختلف تماماً عن مجتمعنا، وإلّا فعلينا أن نقبل أحكاماً أخرى أكثر إشكالية تنتمي لذلك المجتمع، مثل العبودية والسبي والغزو، لتغيير أديان الآخرين وغيرها كثير…
عن النهار اللبنانية