د. كاظم المقدادي
أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي الخبرة والتجربة، والحريصين وطنياً، وأحلت محلهم المحسوبين والمنسوبين والفاسدين والولائيين، الذين صالوا وجالوا، وعاثتوا خراباً وفساداً، جنباً الى جنب " اللجان الإقتصادية" التابعة للإحزاب المتنفذة، التي نهبت المليارات من المخصصات في ميزانية الدولة للوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، ومن العقود والصفقات والفضائيين،رغم أنف الحكومة والقضاء.
بالمقابل، لم تحقق المنظومة المتسلطة لغالبية أبناء وبنات الشعب شيئاً يذكر، سوى نجاحها بإحباط أي توجه حكومي للأعمار والبناء،عبر تجاهل وتسويف وتدمير المشاريع والبرامج الوطنية المقترحة، حتى بلغ معدل البطالة نحو 30%، خاصة بين شريحة الشباب، وإنتشر الفقر، بحيث أصبح يعيش أكثر من 13 مليون عراقي وعراقية تحت خط الفقر، وتردت الخدمات العامة، وتفاقمت الأحوال المعيشية لغالبية الأُسر العراقية. ونتيجة الفشل والنهب والإستحواذ، وصل العراق الى المرتبة 99 في تكلفة المعيشة ضمن المؤشر العالمي (Cost of Living) وبياناته لمنتصف العام الجاري(2024)، وهو أدنى مستوى بتكلفة المعيشة طيلة الـ10 سنوات الماضية، والتي يتم احتسابها على أساس أسعار ايجار المنازل، والبقالية، والقوة الشرائية.وقد حصل العراق على 29.3 نقطة، وجاء في المرتبة 99 عالميًا من اصل 121 دولة (" طريق الشعب"،23/7/2024).
وفي هذا السياق، تجسدت " بركات " منظومة المحاصصة و الفساد في مؤسسات وزارة الصحة في هيمنة إداريين جهلة، بما فيهم ضباط بعثيين دمج، ومعممين مزورين، وعصابات مسلحة، قامت بقتل وإختطاف وتغييب المئات من خيرة ذوي المهن الطبية والصحية، وأرغمت مئات العلماء والأكاديميين وأطباء إختصاص وإستشاريين كبار، على مغادرة البلد. وقامت " اللجان الأقتصادية " بسرقة المليارات من المخصصات السنوية الصحة، ونهب أملاكها ومعداتها وأدويتها، وأفشلت كافة خطط وبرامج تطوير القطاع الصحي الحكومي والإرتقاء بالرعاية الصحية.
وأصبح القطاع الصحي الحكومي تحت سيطرة المافيا، وهوى في مستنقع الفوضى، واللاأخلاقية واللاإنسانية، ووصل لحافة الهاوية،وهو الذي ظل يُعاني من العدد المحدود للمراكز الصحية والأولية، وعدم كفاية المستشفيات الحكومية، التي يرجع تاريخ بناء بعضها إلى سبعينيات القرن الماضي، والإهمال الذي تعرضت له طيلة عقدين، ولليوم تعاني من قدم الأجهزة والمعدات الطبية، ومن شحة وإنعدام الأدوية، بما فيها المنقذة للحياة، لسرقتها من مذاخر المستشفيات، ومن نقص الكوادر الطبية والصحية التخصصية، وتعطيل العمل بـ" قاانون التدرج الطبي" الذي يُلزم الطبيب الخريج ان يُقضي سنة إقامة في إحدى المستشفيات الكبيرة والتعليمية، ومن ثم ينسب للقرى والأرياف،وبعدها الإقامة الأقدم في مستشفى تعليمي في بغداد لمن يرغب في التخصص.وقد أُوقِفَت تعيينات الخريجين، واليوم يوجد 32 ألف خرّيج من المجموعة الطبية بمختلف الاختصاصات، لم يتمّ تعيينهم حتى الآن- كما أعلنت لجنة الصحة والبيئة النيابية ("السومرية نيوز"،22/8)، وعندما تظاهروا سلميا في بغداد والمحافظات الأخرى،مطالبين بتعيينهم، تصدت لهم "قوات الشغب" القمعية بكل وحشية..
ولم يعد سراً تذيل العراق مؤشرات الرعاية الصحية، وهبط الى مستوى أفقر دول العالم خلال الأعوام العشرة الأخيرة، بعد ان كان يمتلك أفضل نظام للرعاية الصحية في الشرق الأوسط- بإعتراف كبار خبراء منظمة الصحة العالمية والزوار من دول الجوار.
وشهد الجميع مؤشرات التدهور الصحي الفظيع، وإنعكاس تداعياته على الغالبية العظمى من المواطنين، لدرجة ان الصحفي الأجنبي كانتان مولر تساءل عن وزارة الصحة بعد تفقده للمستشفيات الحكومية: أهي: وزارة للصحة أم وزارة للموت؟ ("Orient XXI"، 20/8/2020)).
ولليوم، لم نلمس إهتمام جدي من قبل المتنفذين لا بوضع الحلول والمعالجات الفاعلة والعاجلة، ولا بما قدم لها أو نشر بشأن المشكلات الصحية القائمة. ولم يجيدوا سوى التصريحات والوعود المتكررة بـ " نية الوزارة تحسين الرعاية الصحية"، واَخرها ما أعلنه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،في اَذار الماضي، خلال إفتتاحه لبناية مستشفى السيّاب التعليمي في محافظة البصرة: " قرب تنفيذ رؤية جديدة بتقديم الخدمة في قطّاع الصحة، تتمثل بالتعاقد مع شركات عالمية لإدارة وتشغيل المستشفيات". وأضاف: " إن إكمال المستشفيات جزء من أولويات الحكومة، والقطاع الصحي يأتي في المقدمة من برنامج عملها ". وقال: "وضعنا خطة لإنجاز المشاريع المتلكئة، ونعمل على إنهاء ظاهرة اضطرار المواطن للسفر إلى خارج العراق من أجل العلاج، وتوفيره بدلاً من ذلك داخل البلد" (شفق نيوز"،12/3/2024)..
وقبله، ذكر مستشاره عمر شاكر الحاج:" سيتم خلال العام الحالي حل جميع المشاكل الخاصة بالمشاريع الصحية المتلكئة ". وأشار إلى "تسلم قاعدة بيانات جميع المشاريع الصحية في العراق ونسب إنجازها من قبل المحافظات والوزارة " ("الصباح"،10/2/2024).
من جهته، أعلن وزير الصحة الدكتور صالح مهدي الحسناويّ بان العام الجاري هو"عام الرعاية الصحية الأولية ضمن البرنامج الحكومي"، مشيرا الى "خطة موسعة لتطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية، وزيادة وتطوير عمل المراكز الصحية في عموم البلاد، والتي ستقدم خدماتها لـ 80% من مراجعي المستشفيات" (" نينا"، 20/4/2024). وقال في كلمته أمام الدورة 77 للجمعية العامة للصحة العالمية في جنيف،في 28/5/2024: "ان برنامج الحكومة العراقية وضع الصحة ضمن أولوياته من خلال موازنة عادلة ساهمت بتوفير الادوية والمستلزمات الطبية والأجهزة الحديثة للمؤسسات الصحية بمختلف اختصاصاتها. كما وتحضى الرعاية الصحية الأولية في العراق باهتمام بالغ، اضافة الى الكشف المبكر للأمراض المزمنة، وسرطان الثدي، مع تقديم الخدمات العلاجية اللازمة في كل محافظات العراق"..
وجميع التصريحات المذكورة لم تخل عملياً من مبالغة، وعدم دقة، وتناقض، ولم يصدقها المواطنون ضحايا التدهور الصحي وسوء الخدمات الطبية الحكومية، لاسيما وان وزير الصحة أقر بأن " المراكز الصحية الموجودة في عدد من المحافظات بحاجة إلى أجهزة لعلاج أمراض القلب والسرطان" ودعا الحكومة " رفع نسبة التغطية الخاصة بشراء الأدوية " (قناة "الرافدين"، 28/8/2024).
ولعل الأهم، هو إنقضاء 8 أشهر من العام الجاري، ولم يتحقق من الوعود شيئاً يذكر..فهل ننتظر من الوزارة توضيحات " تكذبنا"، بتعداد ما الذي تحقق خلال الأشهر المنصرمة، والإجابة على الأسئلة التالية:
هل تم حلُ المشاكل الخاصة بالمشاريع الصحية المتلكئة؟
وهل تم تنفيذ الرؤية الجديدة بتقديم الخدمة في قطّاع الصحة؟
وهل أصبح العام 2024 عام الرعاية الصحية الأولية؟
وهل تم تطوير عمل مراكز الرعاية الصحية الأولية؟ وكم زاد عددها في العام الجاري؟
وإذا كانت موازنة وزارة الصحة "موازنة عادلة" فهل تم رفع نسبة التغطية الخاصة بشراء الأدوية، وتوفيرها، وتوفير المستلزمات الطبية والأجهزة الحديثة للمؤسسات الصحية بمختلف اختصاصاتها في كافة للمؤسسات الصحية الحكومية؟
وهل تم تحسين الخدمات الطبية العلاجية والوقائية في جميع المحافظات العراقية؟..
وحتى يحصل المواطن على أجوبة إيجابية شافية لهذه وغيرها من الأسئلة، نُذَكِر المسؤولين المتنفذين بان العراقيين شبعوا حد التخمة من كثرة وعودكم التي أطلقتموها طيلة عقدين عجاف، ولم تحققوا غالبيتها، فكفوا ضحكاً على ذقون المواطنين البسطاء!
والأحرى بكم ان ترجعوا لما نص عليه الدستور العراقي الساري في المادة (30)- أولاً: " تكفل الدولة للفرد وللأسرة، وبخاصة الطفل والمرأة، الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة ". وورد في المادة (31)- أولاً: " لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بحماية الصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية "..
وان ترجعوا لوثائق وزارة الصحة وتقاريرها السنوية، التي تنص:" تعمل الوزارة على اتاحة الرعایة الصحیة المتكاملة والشاملة لكافة افراد المجتمع، وبأعلى مستوى من الجودة، وبإستثمار المواد المتاحة بكفاءة، وفقاً لاخلاقیات المهنة وقیم المجتمع، لضمان التنمیة الصحیة المستدامة للحد من المراضة والوفیات وبمشاركة اصحاب الشأن "..
فأين " تحقق" كل ذلك عملياً في الواقع الصحي الراهن؟!!