علي الياسري
((بقطعة من الطباشير الأحمر رسم سيدهارتا غوتاما، بوذا دائرة وقال: "عندما يجتمع الرجال، حتى دون علمهم، يوما ما، مهما كان ما قد يصيب كل منهم، ومهما كانت مساراتهم متباينة، ففي اليوم الموعود سيجتمعون حتما في الدائرة الحمراء."))
افتتح جان بيير ملفيل فيلمه الدائرة الحمراء الصادر عام 1970 بعبارة كتبها هو ونسبها لبوذا كما فعل بفيلمه الساموراي ايضا الذي نسب عبارته الاستهلالية الى كتاب بوشيدو: روح اليابان. ترسم هذه العبارات الخطوط العريضة لأفكار الفيلم وتوضح الفلسفة الوجودية التي تقوم عليها مسارات الشخصيات رغم رفض ملفيل لفكرة الانتماء لفلسفة معينة، او نمط فني كالموجة الفرنسية الجديدة باعتباره احد روادها، وتركيزه على اطاراته الفنية الخاصة والنابعة من مزاج، وذائقة شخصية فهو يرسم شخصياته وفق طقوسه وخياراته المعرفية والحياتية والسلوكية، وتذوقه للاشياء ويسعى الى مزجها بواقع درامي فني يخرج من الحد الثابت لنوع بعينه الى سينما تمثل صورتها الختامية، تجلي لبصمات السينما الشكلية بالمزاج اللوني المطفي والاطارات المُعبرة بنوع الزاوية ودرجتها للكاميرا والميزانسين الصارم دون ألغاء التأثير الفعال لأفلام النوار او الغرب الامريكية مع شيء من سريالية تستحدثها اللحظة الدرامية لتشيع جو تخلقه البيئة المكانية من واقعية شعرية فرنسية خالصة.
ملفيل لا يسمح لأبطاله بالخروج من دائرة القدر، وهو يوثق ذلك بعبارة يرددها رئيس الشرطة في الدائرة الحمراء "الانسان مذنب.. صحيح انه يولد بريئًا لكن هذه البراءة لا تدوم." لذلك ترى المغامرة على الحافات الحرجة للحياة محكومة بالموت كطقس وجودي تمارسه شخصيات ملفيل التي ترسخ في الحتمية لمساراتها، فتراها ترغب بالعيش لكنها بالمحصلة ستكون بطريقة، او اخرى ضمن الدائرة الحمراء. في سينماه يعمل شريط الصوت الذي يلتقط اصوات الموجودات المجاورة في الحيز المكاني للشخصية رفقة الصمت الإنساني، ولغة الجسد مع عناصر التكوين على انشاء البديل الفني بدل الغرق في حوارات كثيرة بل انه يستعيض عنها في فيلمنا هذا مثلا بموسيقى الجاز البارد لخلق التعبير العاطفي والنفس الشعوري اللازم للحدث. احيانا اشعر ان المخرج الفرنسي كان يدفع ابطاله لديناميكيات شخصية، اسستها النماذج البطولية البارزة للقصص المصورة للنصف الاول من القرن العشرين سواء بالمناخ الاخلاقي او المعضلات التي تعترضها مع وعي ذاتي ساطع يدرك ابعاد الافعال الخطرة ونتائج الوقائع الدامية والتبعات الختامية.