لم يعد سراً حجم الانقسام بين القوى السياسية المصرية، التي تخندقت إما مع قوى الإسلام السياسي، أو مع القوى المدنية، فذلك حاصل حتى قبل إطاحة نظام مبارك، وانتصار ثورة 25 يناير "هل انتصرت فعلاً؟"، لكن المهم اليوم أن هذا الانقسام وصل إلى الشارع، على شكل حشود مؤيدة لهذا الطرف أو ذاك، وفي ظل تراجع الجيش إلى الصفوف الخلفية، فإن دماءً سالت عند أسوار قصر الرئيس الإخواني، المتهم اليوم بأنه لم يعد رئيساً لكل المصريين، وأنه مسير من قيادة الجماعة، وبما يمنعه من تنفيذ وعده أيام كان مرشحاً للرئاسة، حين قال من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه، بينما هو اليوم يسعى للاستفراد بالقرار المعصوم، والمحصن والعصي على أي اعتراض أو مناقشه.
انعدام الثقة عامل أساس في هذا الانقسام، فالإسلاميون يتهمون خصومهم بعدم احترام الإرادة الشعبية، وقواعد اللعبة الديمقراطية، وبالسعي لفرض العلمانية على مصر وسلخها عن هويتها الإسلامية، إضافة إلى هواجس تتعلق باستقواء القوى المدنية بأميركا تحديداً والغرب عموماً، بينما ترى القوى المدنية أن الإسلاميين يسعون لفرض قيم جديدة على المجتمع المصري، وإقامة دولة دينية تكرس الاستبداد الديني، ويطارد فيها أصحاب الرأي الحر وبرفض الآخر، ويدللون على ذلك باستبعادهم من مؤسسة الرئاسة، ونكث الوعد بعدم تقديم الدستور للاستفتاء الشعبي، إلا بعد التوافق عليه.
حتى بعد خطاب مرسي، في ساعة متأخرة من مساء الخميس، وهو قدم فيه ما اعتبره تنازلات بالنسبة للإعلان الدستوري، المكمل لم يهدأ الغضب في الشارع المنقسم، فقد هوجمت مقرات لجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، وبالطبع تم اتهام البلطجية والفلول بهما، في وقت عاد فيه المعارضون للتظاهر في محيط قصر الاتحادية، بعد أن كان الحرس الجمهوري أبعدهم عنه، وأعلن عدد من التنظيمات السياسية رفضهم لمضمون الخطاب، الذي قسم المعارضة إلى قسمين، تعهد بالحوار مع واحد منهما، ومعاقبة الآخر، وكانت ردود الفعل الأولية على الخطاب سلبية، ووصفه البعض بأنه يشبه خطاب مبارك بعد موقعة الجمل الشهيرة، التي سبقت سقوطه بعشرة أيام، وانتقدوا تبنيه نظرية المؤامرة، في مواجهة الاحتجاجات المندلعة ضده، وهي نفس طريقة النظام السابق في مواجهة مناوئيه.
بالطبع جاء مشروع الدستور، ليضيف بعداً جديداً للأزمة الناجمة عن الإعلان الدستوري، فهناك الكثير من الملاحظات السلبية على الدستور، تتعلق أساساً بإقحام جهات لا صفة سياسية لها، كهيئة كبار العلماء، ومنحها صلاحيات غير مبررة، وصياغة بعض المواد بطريقة تسهل التنصل منها، والغموض المتعمد في تحديد علاقات السلطات ببعضها، وانحسار الدور الأساس للدولة في المجالين الاجتماعي والتنموي، وفوق كل ذلك تميزه عن كل دساتير العالم، بتجاهله لمبدأ المساواة بين المواطنين، ثم إن التسرع في تحديد موعد الاستفتاء عليه، بعد أسبوعين من إقراره من قبل الجمعية التأسيسية، مع ما يعنيه ذلك من استحالة نشره، وتعميم مضمونه على الشعب، يؤكد أن مرسي والجماعة لا يأخذون بعين الاعتبار، رأي القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعنية، ويتوقفون عند رأيهم باعتباره محصناً بالعناية الإلهية.
وبعد، فإن الفوضى، وما يصحبها من تخبط في مؤسسة الرئاسة، هما سيدا الموقف، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام مصائر مجهولة، تنذر كلها بما هو أسوأ، ليس آخرها الانقسامات في السلك القضائي، وإذا أصرت جماعة الإخوان على موعدها للاستفتاء على الدستور، الذي تصفه قوى المعارضة بالمعيب، فإن المزيد من الفوضى ستحكم الشارع المصري ومؤسسات الحكم، وسيتعمق الانقسام بين المصريين، الذين ما عرفوا يوماً غير وحدتهم كمواطنين، يؤمنون أن الدين لله والوطن للجميع ، وهو عكس ما يسعى إليه الإخوان المسلمون.