TOP

جريدة المدى > عام > غرب سيدني كما عشتها

غرب سيدني كما عشتها

نشر في: 1 سبتمبر, 2024: 12:03 ص

عبد الخالق كيطان *
أنت تسمع عن سيدني في أستراليا. ربما زرتها مرة، أو أنك تقيم فيها أصلا. مع ذلك، فإن سيدني هذه، بالنسبة لي، والآلاف من العرب، والشرقيين، ليست سوى مدن غربها.
سيدني مدينة عملاقة بمعنى الكلمة. وصلتها عام 2002 قادما، بصفة لاجئ، من العاصمة الأردنية عمان. وكان يقيم فيها قبل وصولي مجموعة قليلة جدا من الأدباء العراقيين والعرب، واللبنانيين بشكل خاص. ولكن أن تعيش في سيدني يعني أن تقيم في أحيائها الغربية، تلك المتجاورة بأغلبية شرق أوسطية. وهكذا تطور في داخلي شغف الاهتمام بالآخر. والآخر هنا ينفتح على أجناس عديدة من البشر الذين التقيهم يوميا على مدار العشرين عاما الماضية.
دعوني أرتّب الحكاية بلغة واضحة. أستراليا هي دولة مهاجرين. ولعل آخر المهاجرين إليها هم الشرق أوسطيين. وهؤلاء يشملون، في هذه السردية: العرب والهنود والأفغان بشكل عام، ثم أبناء ديانات وطوائف هذه البلاد. المهاجرون البيض، من أوروبا تحديدا، وبضمنهم الإنجليز، استقروا في كل مكان بأستراليا حتى صارت هذه هي بلادهم، مع استثناءات يمثلها أبناء أوروبا الشرقية، الذين ظلوا أوفياء لمجتمعاتهم التقليدية بصورة أو بأخرى.
ما أحاول توضيحه هنا هم ما يمكن تسميته بالأقليات. المسلمون مثلا، ينقسمون إلى مجاميع مختلفة، تتناحر احيانا! فهم اقليات تحاول كل مجموعة منهم الحفاظ على تقاليدها، بل وتمعن في التمسك بتلك التقاليد فتطوّرها وتفرضها على مواليدها الجدد. والأمر ينطبق على أبناء الديانات المهاجرة، غير المسيحية، فتجدهم يشيّدون معابدهم ودور عباداتهم وينشّطون مناسباتهم الدينية فيغرقونها بالملابس والديكورات والإضافات اللازمة للجذب. الأمر لا يشذّ عند المهاجرين المسيحيين من الأصول الشرقية، فهؤلاء لهم كنائسهم التي تختلف كثيرا عن كنائس البلاد الأصلية، فهم موقنون أن مسيحيتهم لا تشبه مسيحية أهل هذه البلاد.
لقد استطعت، بشكل شخصي، أن أتطفل على عادات مجاميع من الشيعة والصوفية والدروز والسنة والصابئة والايزيديين والهندوس والسيخ والبوذيين واللادينيين… بالإضافة إلى المسيحيين، من المرجعيات الشرقية. كان لافتا ممانعة هؤلاء من الاندماج. عليّ أن أكرر دائما هنا إن أبناء هذه الديانات والطوائف قد وصلوا أستراليا في الخمسين عاما الماضية، باستثناء الهنود والأفغان، واختاروا العيش في أحياء تربطهم ببعض، فبنوا معابدهم، جنبا إلى جنب مع أسواقهم ومدارسهم وملاعبهم وملاهيهم. كل ذلك في مناطق غرب سيدني.
ومن اللافت أن الدولة هنا لم تمانع في ذلك أبدا، بل تشجع عليه. يمكنك أن تدرس، على سبيل المثال، لغة ثانية غير الإنجليزية في المدارس الحكومية، فيختار أبناء "الأقليات" دراسة لغاتهم القومية بلا حرج. بل أن المواطن الأسترالي حرّ تماما في التحدث باللغة التي يختارها، مع أن اللغة الأساسية للتداول الرسمي واليومي هي الانجليزية. أما في المكتبات العامة، وهي في كل حي سكني، فتستطيع العثور بيسر على أحدث إصدارات الكتب بلغتك الأم. وشكلت هذه الجاليات مؤسساتها ونواديها الثقافية والاجتماعية لتقديم فيها مختلف الفعاليات.
أريد أن أصل إلى مسألة معرفة الآخر. بل قل أهمية ذلك في حياتي الشخصية. وهي المعرفة التي نقلتني من فضاضة اعتبار أنني مركز الكون وكل ما عدا ذلك مجرد هامش، وربما أبعد من ذلك إلى واقع انني مجرد نقطة في محيط.
التأمل في الآخر هو الممرّ الذي يقودك إلى فهم آداب وفنون هذا الآخر، وكيف استطاعت الصمود، بل والعبور بالأزمنة والأمكنة، على ما نراه مع أعظم الروايات والقصائد والمسرحيات التي قرأناها. تفهّم عاداتهم، وأنماط حياتهم، طرائق الملبس والمأكل وآداب الحديث وما إلى ذلك هو خبرات مضافة لا يمكن اكتسابها من القراءة فقط، على أهمية القراءة بحد ذاتها.
في أحياء غرب سيدني يمكنك أن تعيش في عالم مصغّر فيه مختلف الثقافات. وبالرغم من إدمان الانعزال عند أبناء تلك الثقافات فإن الراغب بالتعرف إليها لا يجد صعوبة في ذلك. ثم تجيء فرص العمل لتتشارك من خلالها مع هذا الآخر في يومياته/ يومياتك ما يشكل مناسبة أخرى للفهم، والتأمل.
أنني هنا مضطر إلى تذكر معاناة أبناء الديانات والقوميات واللغات والطوائف في بلادنا العربية، ولعلي أقول في العراق بشكل خاص. وإذ ولدت وعشت في مدينة صغيرة جنوب العراق، لم يصل تعداد سكانها في السبعينيات إلى مليون نسمة، فإنني أتذكر عزلة أبناء "الاقليات" فيها بعضهم عن بعض. العزلة هنا لا تشبه عزلة "اقليات" غرب سيدني، فهم في مدينتي الصغيرة مجبورون عليها بسبب نظرتنا القاسية، بل واللئيمة لهم. لقد اقصتهم ثقافة الأمة الواحدة، فيما قرروا هنا في سيدني أن يقصوا أنفسهم بأنفسهم حفاظا على عرقهم من التلوث الذي يسببه الاندماج!
كيف يمكن لهذه المليارات من البشر أن تعيش في كوكب واحد بسلام وأمن؟ تعالوا إلى غرب سيدني وتعلموا.
شاعر عراقي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مخلص خليل: الشعر والبحر

صورة الشعر.. دفاتر ضياء العزاوي

علي طالب: عن كائن يتأمّل وجوده

أحتسي فراغَهُ وأرتِّل

ذكرياتنا الصادمة:هل نحفرُ فيها أم ندفنها في الأعماق؟

مقالات ذات صلة

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي
عام

التخيل الخارق والخرافي للذكاء الاصطناعي

د. نادية هناويالقسم الأوليذهب ستيفن كايف وكنتا ديهال في تحريرهما كتاب(تخيل الذكاء الاصطناعي: كيف يرى العالم الآلات الذكية؟) 2023 إلى أن مفردة(ذكاء) سردية، ما يزال العلم إلى الآن لم يثبت حقيقتها الدالة بشكل علمي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram