TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: كنتُ في بغدادَ ولم أكنِ

قناطر: كنتُ في بغدادَ ولم أكنِ

نشر في: 1 سبتمبر, 2024: 12:05 ص

طالب عبدالعزيز

هل أقول بأنَّ بغداد مدينةٌ طاردةً لزائرها؟ كأني بها كذلك اليوم! فالمدينة التي كنتُ أقصدها عاشقاً، متلهفاً لرؤيتها لم تعد، ولا أتبع الاخيلة والاوهام التي كنتُ أحملها عنها، لكنَّ المنعطفَ الخطير والمتغيرَ الاخطر أذهبا بصورتها تلك، حتى أنني لا أجد مكاناً أراها فيه، هي اليوم مدينة أخرى، بلا صورة، صورتها التاريخية باتت تختفي تباعاً، ليس في روحي، إنما على الواقع، اللهم إلا من صورة الفوضى والارتجال، التي بدت فيها حيثُ توجّهت.
قلنا لصديقنا الدكتور أحمد الزبيدي، ابن المستنصرية، والعارف بشوارعها وضواحيها وأسواقها أحمِلنا بسيارتك الى حيث نجدُ بغداد، فحَمَلنا، ونحن في ظهيرة أخيرة من آب، قال: الى أين تريدان؟ قلنا: الى حيث تجد بغداد! أو ما يشبهها، فمررنا بشارع جميل في الكرخ، لا يبعد عن دجلة كثيراً، وحين اقترح المتحف الوطني مكاناً، قلنا: بأنَّه مكان سبقت زيارتنا له، فهدانا الى دار المخطوطات، مكاناً مقترحاً آخر، ومع أنّي لم أزرها من قبل لكنني وجدتها مكاناً معرفياً، لا سبيل اليه في الظهيرة هذه، وأننا بحاجة الى مكان يقع خارج اهتمامات النخبة، بعيدٍ عن فوضى الثقافة والمثقفين، مكان يقصده العامة والخاصة، يجدُ قاصدُه ضالتَه فيه، ولم أقترح الزوراء مكاناً، لعِلمي بشعبيته وشعبويته.
كانت مقهى البيروتي القديمة ملاذاً أخيراً، إنْ لم تكن يأساً من العثور على مكان أفضل، وهكذا وجدنا مجلساً متواضعاً، على نهر الدجلة، إذْ أنَّ مشهد مرتاديه ورائحة دخان الأراجيل كانت كافيةً لطردنا من صالة المقهى الكبيرة. كانت النسائم الباردة التي تأتي من النهر بخيلةً، فآب ما زال قائظا، يطبق بخناقه على المدينة، والشمس المحرقة وروائح وقود مولدات الكهرباء حاكمةٌ في الفضاء العام، وحيث يكون المقيم والزائر، ولولا إقامتنا بفندق ركن كهرمانة، بضاحية الكرادة، الذي يؤمن لنزلائه كهرباء الـ 24 ساعة لما تمكنا من قضاء ثلاث ليال.
للمكان سلطة في إدارة الحديث، وللإحساس به وقع في إدامته، وكنا سنتحدث بشؤون وشجون الأدب والفنون والنشر والمؤتمرات الثقافية لو كان فضاء المقهى يسمح بذلك، فقد كانت اللحظات التي أمضيناها قاسية هناك، بل ومنعتني شخصياً من تأمل صفحة الماء، التي كانت تنساب هادئةً أسفل مقاعدنا. حاولت أنا ذلك، فلم أستطع، ربما يكون الأداء البلدي سبباً، والتفكير بالمال الضائع، والوجوه الحكومية الكالحة، وسيادة الفساد التي يتحسسها ويلمسها الإنسان في كل مكان من العاصمة، ثم أنني فكرتُ بوصفي (مناطقياً) جداً- كما يراني البعض- بالمليارات، التي مصدرها نفط مدينتي البصرة، ولماذا لم تحسّنْ من صورة المدينة التي أحبّ، وحتى مَ تتحول المليارات البصريّة الى أرصدة اللصوص والقتلة والسفلة؟
كانت طريق عودتنا تمرُّ بالمحطة العالمية، في منطقة علاوي الحلة، ذلك المبنى الجميل، والتحفة المعمارية الأهم، بقبّتها المهموسة بالأزرق الشذري، وصوت قطارتها، وجلبة عرباتها، وهيئات القادمين والمغادرين، وجنودها العائدين من الحروب، وليل السفر الطويل، أو نهار الوصول الأجمل، يوم كنتُ أختصر بغداد بلحظة خروجي من المحطة، باحثاً عن الباص الأحمر، الذي سيقلني الى مبتغاي بفندق الميناء، الذي بحافظ القاضي، ومن ثم الى مقهى البرلمان، وحسن عجمي بعد ذلك، والى شارع الرشيد، حيث تحملني قدماي مستعيداً الاعصر الغابرة الطويلة، والمثابات التي لا توصف بقلم، ولا ترصد بعين. قد يقول قائل بأنك تنظر الى بغداد بعين تأريخية، والدنيا متقلبة بأهلها، والدهرُ ذو غِيَرٍ، فأقول: لا. هناك من يعمل ومازال يعمل على تخريب المدينة، هو يكرهها لأنّها بغداد، وفي منابت روحه بغضاءٌ لكل جميل فيها، لذا، فهو ينتصر لأحقاده، ويسره منظرها وهي تخرّبُ وتتشوّه، وهي تذهب في الزمن الى الوراء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: نظرية "كل من هب ودب"

 علي حسين يريد تحالف "قوى الدولة " أن يبدأ مرحلة جديدة في خدمة الوطن والمواطنين مثلما أخبرنا بيانه الأخير الذي قال فيه إن أعضاء التحالف طالبوا بضرورة تشريع تعديلات قانون الأحوال الشخصية، التي...
علي حسين

قناديل: انت ما تفهم سياسة..!!

 لطفية الدليمي كلُّ من عشق الحضارة الرافدينية بكلّ تلاوينها الرائعة لا بدّ أن يتذكّر كتاباً نشرته (دار الرشيد) العراقية أوائل ثمانينيات القرن الماضي. عنوان الكتاب (الفكر السياسي في العراق القديم)، وهو في الاصل...
لطفية الدليمي

قناطر: كنتُ في بغدادَ ولم أكنِ

طالب عبدالعزيز هل أقول بأنَّ بغداد مدينةٌ طاردةً لزائرها؟ كأني بها كذلك اليوم! فالمدينة التي كنتُ أقصدها عاشقاً، متلهفاً لرؤيتها لم تعد، ولا أتبع الاخيلة والاوهام التي كنتُ أحملها عنها، لكنَّ المنعطفَ الخطير والمتغيرَ...
طالب عبد العزيز

الزواج رابطة عقدية تنشأ من دون وسيط كهنوتي

هادي عزيز علي يقول الدكتور جواد علي في مفصله لتاريخ العرب قبل الاسلام ان الزواج قبل الاسلام قائم على: (الخطبة والمهر وعلى الايجاب والقبول وهو زواج منظم رتب الحياة العائلية وعين واجبات الوالدين والبنوة...
هادي عزيز علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram