TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الزوجَة الطِفلَة بين التراجيديَّة والكوميديَّة الفقهيَّة

الزوجَة الطِفلَة بين التراجيديَّة والكوميديَّة الفقهيَّة

مَقالٌ في العَقل الفقهي (1)

نشر في: 2 سبتمبر, 2024: 12:11 ص

د. لؤي خزعل جبر

مِن علاماتِ شعبويَّة ووهميَّة الجدل بين المُنتقدين والمؤيدين للتقنين الفقهي الشيعي ما يسود بخصوص معقوليَّة زواج المرأة بعمر التاسِعَة، إذ يرى المُنتقدون إنَّ المرأة في التاسعة طِفلَة، ويقبُح تزويجُ الطِفلَة، فهي غير مُستعدَّة – عقلياً ونفسياً وجسدياً واجتماعياً – للزواج، وغيرُ مؤهَّلة لبناءِ أسرة سليمة، بينما يقول المؤيدون أنَّ المرأة تبلُغ في التاسِعَة، بحسبِ الشرع الإلهي، وجواز التزويج عند التاسِعَة لا يعني – بالضرورة – إيقاعه، وإنما يتبع المصلحة، فليس هُناك إلزامٌ بالتزويج!
كِلا الطرفان يُغفِلان – ربما جهلاً من الأوَّل وتجاهلاً من الثاني – حقيقة أنَّ التاسِعَة لا صِلَة لها بالزواج، فالعمر ليس من شروط الزواج، إذ يجوز تزويج الطِفلة – وحتى الطِفل – بمجرَّد الوِلادَة، أما التاسعة فهي شرطٌ للدخول (المُمارسة الجنسيَّة الداخليَّة: الوطء قُبلاً أو دُبراً بالتعبير الفقهي) في الطِفلَة، بمعنى أنَّ الرجل يُمكن أن يتزوَّج الطفلة بمجرَّد أن تولَد، ولكن لا يدخل بها حتى تُكمِل التاسِعَة (مع ملاحظة أنَّ التاسعة بالسنة الهجريَّة، فتعادِل بالميلاديَّة ثمانية وتسعة أشهر).
لتبيان هذهِ القضيَّة، سنقفُ عند حالتين، تراجيديَّة وكوميديَّة، لهما دِلالاتٌ مُتعددة فيما يخصُّ العقل الفقهي، فالمقصودُ ليس الحالتينِ بالذات، وإنما ما تكشفان عنه من آليَّاتٍ استنباطيَّة، وكلتاهُما مبنيَّتان – وتدلُّان بوضوح - على القولِ بجواز الزواج من الطِفلَة، منذ الولادَة، وهي رضيعَة. فنسألُ: هل يحقُّ لزوجِ الطِفلَة الاستمتاع بزوجته (المُمارسة الجنسيَّة الخارجيَّة: النظر واللمس والتقبيل والضم والتفخيذ بشهوة بالتعبير الفقهي)؟ وماذا لو تعمَّد عدم الالتزام بمنع الدخول ومارَس الدخول بزوجته الطِفلَة؟ وماذا لو أنَّها - نتيجة الدخول - أُفضيَت (الإفضاء – بالاصطلاح الفِقهي – اتحادُ مسلكي البول والحيض أو الحيض والغائِط أو اتحادها جميعاً، بمعنى التعرُّض إلى تمزُّقٍ شديدٍ وعاهَةٍ مُستديمة تجعل المرأة غير قابلة للمُمارسة الجنسيَّة)؟ ومع القولُ بجواز الزواج بالصغيرة، مُنذ الولادة، وبجواز تعدُّد الزوجات، يُصبح من المُمكن أن تكون لدى الرجل زوجة كبيرة، ثم يتزوج طِفلَةً رضيعَة، ويوافق أن تكون الكبيرة مُرضِعَة فتقومُ بإرضاعِ زوجة زوجها الصغيرة، فنسألُ في هذهِ الحالَةُ: ما الموقِف، فزوجته الكبيرة ستُصبح أمَّ زوجته، وزوجته الرضيعة قد تُصبح ابنته؟
يُجيبُ الفقيه على هذهِ الأسئلة بالعودة إلى النصوص، فوظيفة الفقيه أن لا يُفكر خارِج النصوص، وما عليهِ إلا "الاستنباط"، بمعنى استخراج الحُكم الشرعي من النصوص الشرعيَّة (القرآن والسُنَّة، أما الإجماع والعقل فهُما مُلحقان بالأولين ولا استقلاليَّة لهما). ولذلك يوقِفُ الفقيه – بحسب المنهجيَّة - عقله ووجدانه وخبرته وسياقه، وينفصلُ عن موضوعِهِ المَبحوث، إذ لا اهتمامَ له بهِ بالذات، وإنما كُل اهتمامِهِ ما تقوله النصوص، بصرفِ النظر عن طبيعته وطبيعة موضوعِهِ. وهذه المنهجيَّة ليست مزاجيَّة أو اعتباطيَّة أو سطحيَّة، بل قائِمَة على مبانٍ عقائديَّة عميقة مُسبقة، فالفقيهُ ليس – كما يعتقدُ معارضوه المُتحيزون – شخصيَّة بسيطة أو سلبيَّة، ولكنَّهُ يعتمدُ منهجيَّة خاصَّة مبنيَّة على أُسس فكريَّة مُحكَمَة. ومن هُنا أقولُ دائِماً أنَّهُ ليس من العِلم أو الأخلاق انتقادُ فقيهٍ على فتوى راسخة، مهما كانت غير مقبولَة ظاهراً، أو مُباينة للمعقوليَّة أو الثقافَة السائِدَة، إذ إنَّ منهجيته تُلزمه بأن لا يُدخِل قناعاته الخارجيَّة في استنباطاته الفقهيَّة، وإنما بما تقوله النصوص - صراحةً أو ضِمناً - بصورة مُطلَقَة، فتلك المنهجيَّة تُجبره على أن يدور مدار النصوص وجوداً وعدماً. ومَن يريد الانتقاد عليه مُسائلة تلك المنهجيَّة.
الحالة التراجيديَّة: إفضاءُ الطِفلَة
في هذهِ القضيَّة، وبعدَ تتبُّعٍ للكُتب الروائيَّة الرئيسيَّة في الفِقه الشيعي (الكافي للكُليني، والفقيهُ للصَدوق، والتهذيبُ والاستبصارُ للطوسي، إضافَةً إلى موسوعة الوسائِل للعاملي)، وكذلك مراجَعَة بعضِ الكُتب الاستدلاليَّة الفارِقَة (كالحدائِق الناضرة للبحراني، وجواهر الكلام للنجفي، ومُستمسك العروة الوثقى للحكيم، والمباني في شرح العروة الوثقى للخوئي)، نجد أنَّ هُناك ثمانية نصوص روائيَّة مركزيَّة، إن لم تكُن حصريَّة، كانَت مدار الاشتغال الفقهي في هذهِ المسألة.

  1. عن حُميد بن زياد، عن الحسن بن مُحمد بن سَماعة، عن صفوان بن يحيى، عن موسى بن بكر، عن زُرارة، عن أبي جعفر] الباقِر[ عليه السلام، قال: لا يُدخَل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين. (الكُليني، الكافي، 5: 253/3؛ الصَدوق، الفقيه، 3: 25/4443؛ الطوسي، التهذيب، 8: 451/762؛ العاملي، الوسائِل، 17: 45/2).
  2. عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن أبي عُمير، عن حمَّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله] الصَادق[ عليه السلام، قال: قال: إذا تزوج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخُل بها حتى يأتي لها تسع سنين. (الكُليني، الكافي، 5: 253/2؛ العاملي، الوسائِل، 17: 45/1).
  3. عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله] الصَادق[ عليه السلام، قال: إذا خطب الرجل المرأة فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، فُرق بينهما ولم تحلَّ له أبداً. (الكُليني، الكافي، 5: 273/12؛ الطوسي، التهذيب، 7: 311/249، الاستبصار، 4: 295/355؛ العاملي، الوسائِل، 17: 34/2)
  4. عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن حُمران، عن أبي عبد الله] الصَادق[ عليه السلام، قال: سُئِل عن رجل تزوَّج جاريَة بِكراً لم تُدرِك، فلما دخل بها اقتضَّها فأفضاها؟ فقال: إن كان دخل بها حين دخل بها ولها تسع سنين فلا شيء عليه، وإن كانت لم تبلُغ تسع سنين أو كان لها أقلُّ من ذلك بقليل حين اقتضَّها فإنَّه أفسَدها وعطَّلها على الأزواج، فعلى الإمام أن يغرمه ديتها، وإن أمسكها ولم يُطلقها حتى تموت فلا شيء عليه. (الصَدوق، الفقيه، 3: 78/4496؛ العاملي، الوسائِل، 17: 45/9، 34/1)
  5. عن مُحمد بن يحيى، عن أحمد بن مُحمد، وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعاً عن ابن محبوب، عن الحارِث بن مُحمد النعمان صاحب الطاق، عن بريد ابن معاوية، عن أبي جعفر] الباقِر[ عليه السلام في رجل اقتضَّ جارية – يعني امرأته – فأفضاها؟ قال: عليه الدية إن كان دخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، قال: وإن أمسكها ولم يُطلقها فلا شيء عليه، إن شاء أمسك وإن شاء طلق. (الكُليني، الكافي، 7: 198/18؛ الطوسي، التهذيب، 10: 249/350، الاستبصار، 4: 294/353؛ العاملي، الوسائِل، 17: 34/3).
  6. عن مُحمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: لا توطأ جارية لأقل من عشر سنين، فإن فعل فعيبت فقد ضَمِن. (الطوسي، التهذيب، 7: 410/597؛ العاملي، الوسائل، 17: 45/7)
  7. عن حمَّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله] الصَادق[ عليه السلام، إنَّ من دخل بامرأة قبل أن تبلغ تسع سنين فأصابها عيب فهو ضامِن. (الصَدوق، الفقيه، 3: 26/4444؛ العاملي، الوسائل، 17: 45/8).
  8. عن ابن أبي عُمير، عن حمَّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله] الصَادق[ عليه السلام، قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فأفضاها؟ قال: عليه الإجراء عليها ما دامت حيَّة. (الطوسي، التهذيب، 10: 249/351، الاستبصار، 4: 294/354؛ العاملي، الوسائِل، 17: 34/4).
    بتحليلِ هذهِ النصوص الثمانية، بحسبِ الثيمات التي وجدت في المعالجات الفقهيَّة اللاحقة كما سنُبين، نجدُ أنَّ أغلبها (7 من 8) تدلُّ - صراحَةً – على جواز تزويجِ الطفلةِ قبل التاسِعَة، وإنما تُناقِش في جواز الدخول، وتُحدده – في الغالِبِ (6 من 8) – بإكمالِ التاسِعَة، و(2) لا توجَدُ ولا روايَةٍ واحدةٍ استوفت كل الثيمات، وإنما اختصَّت اثنتان – حصراً - بجواز التزويج وعدم جواز الدخول (1 و2)، وواحدة بالحُرمة والبينونة في حالِ الدخول دونَ إشارَةٍ للإفضاء وعدمه (3)، وأربعة بالدية في حالِ الإفضاء (4 و5 و6 و7)، وواحدة بالنفقة في حالِ الإفضاء دونَ إشارَةٍ لسنٍ مُعينة، مما أوجَدَ عناوين عِدَّة، مُتضاربة، ألزَمَت الفقهاءُ بمعالجتها، ومحاولة التوفيقِ بينها، ولاسيما في الروايات (3 و4 و5 و8) التي شكَّلت قلبَ الثمانية، ومُعضلة الجمع الأساسيَّة. ولا يُمكن في هذهِ المقالة المُقتضبة استعراضُ النقاشات التفصيليَّة الواسِعَة والعميقَة، ولذلك سنكتفي بإشارات أساسيَّة عامَّة (للاستزادة أنظر: البحراني، الحدائِق، ج23، ص407-415؛ النجفي، الجواهر، ج30، ص760-790؛ الحكيم، المُستمسك، ج14، ص78-93؛ الخوئي، المباني، ج32، ص124-142).
    التاسِعَةُ والعاشِرة: روايتانِ (1 و6)، في مقابل ست، وردت العاشرة، إما ترديداً مع التاسعة أو انفراداً بدون التاسعة، كحد لجواز الدخول. ففي الترديديَّة " لها تسع سنين أو عشر سنين"، المُوثَّقة، ولاسيما بوجودِ زُرارَة، عمد معظم الفقهاء إلى حمل الترديد على تردد "الراوي أو استحباب التأخير إلى العشرة أو اختلاف النساء في الوطء" (النجفي، ص760)، أو على كون "التخيير بين الأقل والأكثر يستوجب حمل الأكثر عُرفاً على الاستحباب" (الحكيم، ص79)، أو لكون "الترديد في الحد أمر غير معقول، فلابد من حمل الحد الثاني على الأفضليَّة" (الخوئي، ص124). أما في الإفراديَّة " لأقل من عشر سنين"، المُعتبرة أو المُوثَّقة، فقد عمد معظم الفُقهاء إلى وصفها بـ "شاذ، يمكن حمله على الدخول في العشر أو على الكراهَة" (النجفي، ص760)، أو "شاذ مهجور، يجب حمل صدره على الاستحباب، بقرينة ما سبق، إن أمكن، وإلا طرح" (الحكيم، ص79)، أو "لابد من حملها على الأفضليَّة أو دخولها في العشرة لا إتمامها لها" (الخوئي، ص124). وبذلك حُسم النقاش – إلى حد كبير - لصالِح إكمال التاسِعَة، لكونه ورد في روايات أكثر عدداً وصِحَّة إسنادٍ، وما خالَف تلك الروايات – كلياً أو جزئياً - يؤوَّلُ أو يُطرَح. وكل ذلك فيما يخصُّ الدخول، أما الاستمتاعات فـ "الظاهر اختصاصُ التحريم في الوطء دون باقي الاستمتاعات وفاقاً لصريح بعض وظاهر آخرين، للأصل السالِم عن المُعارِض" (النجفي، 783-784)، وبتعبير آخر "لعدم الدليلِ على الحُرمة، بل لعمومات جواز الاستمتاع بالزوجة" (الخوئي، ص126).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: نظرية "كل من هب ودب"

العمودالثامن: كيف ننجو؟

 علي حسين عام 1965 قرر رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، تونكو عبد الرحمن، أن يطرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي، في ذلك الوقت سأل أحد الصحفيين رئيس وزراء سنغافورة ماذا سيفعل؟ كانت الجزيرة بلا موارد...
علي حسين

باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

 ستار كاووش خرجتُ من متحف لام وأنا مُحَمَّلٌ بفتنة الأعمال الفنية والابتكارات المختلفة التي ملأت صالات العرض. وما أن وضعتُ قدمي خارج الباب الزجاجي للمتحف، حتى إنعكس لون الحديقة الأخضر على وجهي. حديقة...
ستار كاووش

الزوجَة الطِفلَة بين التراجيديَّة والكوميديَّة الفقهيَّة

د. لؤي خزعل جبر مِن علاماتِ شعبويَّة ووهميَّة الجدل بين المُنتقدين والمؤيدين للتقنين الفقهي الشيعي ما يسود بخصوص معقوليَّة زواج المرأة بعمر التاسِعَة، إذ يرى المُنتقدون إنَّ المرأة في التاسعة طِفلَة، ويقبُح تزويجُ الطِفلَة،...
د. لؤي خزعل جبر

أكثر من حرب على صوت المرأة

حازم صاغية حينما يوصف أحدهم بأنّه "مسموع الصوت"، يكون المقصود أنّه مؤثّر أو نافذ. فالصوت أداة قوّة وتمكين، ولأنّه كذلك كان مَن يطالب أو يحتجّ "يرفع صوته"، فحين لا يُلبّى طلبه يرفعه أكثر إلى...
حازم صاغية
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram