TOP

جريدة المدى > عام > "مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً>

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً>

"سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا"

نشر في: 2 سبتمبر, 2024: 12:17 ص

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
عندما ظهر مبنى "مركز جورج بومبيدو" Centre Georges- Pompidou في الدائرة الرابعة بباريس وفي موقع <الهال> بقلب العاصمة الفرنسية (هو الذي بدأ تصميمه سنة 1971، وافتتح في 31 كانون الثاني 1977، المعماريان الاساسيان: "رينزو بيانو" و " ريجارد روجيرز") كان ذلك الظهور المميز يعني فيما يعنيه تكريساً لواقعة لافتة و"تثويرية" في المشهد المعماري؛ واقعة ليس فقط هيئتها المعمارية لم تكن تشبه السائد من المباني، وإنما مقاربتها التصميمية بدت وكأنها تعلن قطيعة تامة مع نُهُجٌ سابقاتها وذائقتها الجمالية. فالمبنى "المشغول" بتراكيب انشائية معدنية، و"المصبوغ" بالوان فاقعة، كانت حلوله التصميمية تسعى، وكأنها "تتبختر"، وراء <قلب> المفاهيم المألوفة رأسا على عَقِبٍ: فوسائط الخدمات وتراكيبها المختلفة التى لطالما كانت "تُخفى" داخل جسم كتلة المبنى، تَعَنّي المصممون على إظهارها و"كشفها" للخارج. ومن اجل تكثيف هذا "الكشف" الفاضح، لجأ المعمارييون الى تلوينها بتلك الالوان الساطعة، جاعلين من قرارهم التكويني هذا، بإظهار الخدمات نحو الخارج، ليكون أهم صفة تسم اللغة التصميمية للمركز المذكور. ومع غرابة منتج العمارة المجترحة واسلوب تصميميها المتفرد، فان جمهوراً واسعاً استطاع ان يستوعب "صدمة" إختلاف العمارة المقترحة، ويتقبلها برضى و اِسْتِسَاغة. بل وعًدّت، سريعاُ، عمارة المركز اياه، من المواقع الاثيرة والجاذبة في العاصمة الفرنسية.
وعلى اثر ذلك الظهور "المُدَوّي" واللافت لعمارة "مركز بومبيدو" الباريسي، شرع نقاد العمارة ومنظّريها بالحديث عن "تيار" ابداعي جديد، بدأ يتشكل في الخطاب المعماري العالمي ويترسخ في مشهده التصميمي. وسرعان ما أًطلق على ذلك التيار المعماري الجديد الذي ارتهن وجوده بظهور عمارة " مركز بومبيدو"، اسم تيار عمارة "الهاي تيك" High-tech architecture، او عمارة "التقنية الفائقة". وكان من تبعات ظهور ذلك التيار، فتح المجال واسعاً امام بروز تيارات "ما بعد الحداثة" في المشهد المعماري بكل اساليبها ومقارباتها التصميمية المتنوعة.
ظل منتج عمارة "الهاي- تيك" لفترة طويلة محتفظاً بخصائصه المحددة الواسمة لاسلوبه التصميمي، من حيث إظهار وسائط الخدمات نحو الخارج مع التركيز على كشف نوعية التراكيب الانشائية، والاشهار في توظيف المنتجات المعدنية كمادة انشائية اساسية. بيد ان رؤية تكرار تلك الخصائص ذاتها، واستمرار حضورها الدائم من دون تغيير في النماذج المعمارية لهذا التيار، نجم عنه بزوغ حالة من السأم والملل البصريين؛ ما جعل بعض المصممين المبدعين ينأون بانفسهم عنه وينصرفون عن مرجعيته التصميمية. لكن "وهج" هذا التيار وسطوعه في المشهد، فضلاً على حداثته المفرطة وجرأته في احداث "قطيعة" أسلوبية مع ما انتج سابقاً؛ كان كافياً (..وباعثاً أيضاً) للأخرين في وجوب التقصي عن "أشياء" بمقدورها ان " تُحيـّد" من السلبيات التكوينية التى اقترنت بهذا التيار.
وفي ظني، فان "إشتغال" المعمار والمهندس والرسام والنحات الاسباني- السويسري "سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا" على هذا الجانب تحديداً، هو الذي ولّد، لاحقاً، اسلوبه التصميمي المميز والشاعري، والذي يعرف بـ "بيو –تيك" Bio- Tec، اي "التكنولوجيا – الحيوية". مازجاً، كما يقول، "القوة" مع "البنية" المبنية القادرة على اجتراح مزيدا من الاحاسيس، مضفياً على مبانيه الفريدة جمالية آسرة، نابعة بالاساس من ديناميكية المنتج التكنولوجي وحيويته. وفي ظني، ايضاً، كان من الصعب بمكان بروز الـ "بيو - تيك"، من دون الاخذ في نظر الاعتبار وجود "الهاي- تيك" في المشهد المعماري؛ رغم ان "كَالَاتْرَافَا" لا يعترف بذلك، مثلما لا يقّر مشروعية تسميات النقاد لمقاربته التصميمية الخاصة. وفي هذا المجال يشير بانه "تعاطى دوماً مع عمارة كلاسيكية تماماً، لقد حصلت على تعليم معماري كلاسيكي، ومبادئ التصميم الخاصة بي ناجمة تماماً من الكلاسيكيات المعمارية. انها بهذا المعنى تشبة الموسيقى الطليعية، والتى تبدو غريبة الى حدِ ما في البداية، ولكن بعد ذلك تدرك أنها تتبع بوضوح الشرائع الكلاسيكية!".
ولد "سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا" في 28 تموز (يوليو) 1951 في ضواحي فالنسيا باسبانيا. ومنذ صغره اهتم بالفن، وقد ارسله والداه وهو بعمر 13 سنة الى باريس، وقد اعجب هناك باعمال لو كوربوزيه التى ستصبح مصدر الهام له لفترة طويلة. ثم عاد الى مدينته ليكمل تعليمه الجامعي في المدرسة العليا للعمارة في جامعة البوليتكنك في فالنسيا، منهياً دراسته بحصوله على دبلوم عمارة، ثم التحق، بنفس المدرسة بدراسات عليا في التخطيط الحضري. في عام 1975 التحق بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زرويخ بسويسرة، للحصول على درجة ثانية في الهندسة المدنية. وفي عام 1981، حصل على شهادة الدكتوراه في قسم الهندسة المعمارية من ذات الجامعة السويسرية. بعد ذلك مباشرة اسس لنفسه مكتبه الخاص في زرويخ التى قرر ان يبقى فيها وحصل تاليا على الجنسية السويسرية.
ويعد مشروعه الكبير قاعة جديدة في "محطة سكك حديد في زرويخ" (1983 -1989)، وكذلك محطة قطار كاملة زرويخ ستادلهوفن (1983 -1990) من اوائل المشاريع الهامة التى جلبت الانتباه اليه والى مقاربته التصميمية المميزة والتى تضمنت بعض الخصائص التى سرعان ما امست بمثابة"توقيع" ابداعي لتصاميمه ومنها: الخطوط المستقيمة واستخدام نادر للزوايا القائمة، وميل واضح للاعمدة الداعمة، وتوظيف دائم للمنحنيات في ارصفة السكك الحديدية، الجدران الخرسانية المجوفة اسفل خطوط السكك المثقبة على هيئة دمعة، والتى توفر من خلال الواحها الزجاجية المائلة الضوء العلوي والامان من دون الاحساس بنوع من غلق لتلك الامكنة!
ما بين 1984 – 1987، شيد المصمم "سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا" اول جسر له في بلده الاصلي اسبانيا في برشلونه وهو جسر "باك دي رودا" Bac de Roda، والذي جلب له لاول مرة شهرة عالمية. ويربط الجسر المخصص الى السابلة ولراكبي الدرجات الهوائية بين جزئين من المدينة تفصلهما منطقة مزدحمة بمسارات من الخطوط الحديدية. وقد بلغ طوله 128 مترا، ويتألف من اقواس مزدوجة تميل بزاوية 30 درجة، وهي الميزة التى امست كما اشرنا من ضمن الخصائص التصميمية الموظفة غالبا في تصاميم المعمار. وتمتاز اقواس الجسر في المنطقة العلوية منه والمثبته به الحبال الفولاذية "الكابلات" الدقيقة مثل شبكة من الدانتيلا، في حين ترفع الدعامات الخرسانية الضخمة الجسر من الاسفل. وفي اسبانيا ايضا ولكن في مدينة اشبيلية نفذ المعمار جسره الثاني "جسر بونتي ديل الاميلو" (1987 -1992) Puente del Alamillo الذي عزز من حضوره الدولي لروعته التصميمية وابداعه الهندسي. وكان تنفيذ هذا الجسر بالتزامن مع تنظيم معرض إكسبو 1992 قي اشبيلية وقتها. وقد بلغ طول الجسر 200 مترا، فوق مجرى نهر "مياندرو سان جيرونيمو". وكانت ميزة الجسر الاساسية العمود الشاهق (الذي بلغ ارتفاعه 142 مترا) والمائل بزاوية 58 درجة (وهي ذات زاوية ميل هرم خوفو في الجيزة بمصر) والساند والرافع للجسر من خلال اسلاك فولاذية "كيبلات" بعدد لا يتجاوز 13 سلك فولاذي، مثبته فيه من جانب واحد، كانت كافية لدعم ورفع هذا الجسر من دون استخدام اسلاك فولاذية اخرى خلف هذا العمود الشاهق!
وبعد ان احرز "سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا" نجاحات مهمة ونال شهرة عالمية مستحقة، من خلال تبنيه واعداده تصاميم لمشاريع متعددة اخرى في بلدان العالم المختلفة، صمم مجمع "مدينة الفنون والعلوم" (بالاشتراك مع فيليكس كانديلا F. Candela) في مسقط رأسه بمدينة فالنسيا. كما صمم "دار الاوبرا> لاحقا في هذا المجمع. واستغرق تنفيذ ابنية القسم الاول منه حوالي عقد من الزمان (1991 -2000)، في حين نفذت دار الاوبرا ما بين 1996 – 2006. وقد شُيدّالمجمع على ارض مساحتها 35 هكتاراً وتقع في الطرف الجنوبي الشرقي من مجرى نهر "توريا" السابق، والذي تم تجفيفه واعادة توجيهه بعد فيضان كارثي في سنة 1957، وتحول مجرى النهر القديم الى حديقة "غارقة" خلابة! وتعد نوعية عمارة الابنية في هذة المدينة من ضمن كنوز اسبانيا الاثنى عشر، كما تعتبر <المدينة> الان من اهم الوجهات السياحية الحديثة في اسبانيا قاطبة متجاوزة بعدد زوار ها، عدد زوار "قصر الحمراء" الاندلسي الشهير!
ويعد تصميمه لجناح دولة الامارات المتحدة في "معرض اكسبو 2020 دبي" حدثا مهما في نشاطه المهني. اذ انه فاز في مسابقة دولية اشترك فيها 11 مكتبا عالميا وتم اختيار تصميميه لانه كان متسقا بصورة مبدعة مع موضوع شعار المعرض "ربط العقول وخلق المستقبل" بالاضافة لكونه يتضمن طابعا مميزا لدولة الامارات. غطي الجناح مساحة تقدر بـ 8000 متراً مربعاً، وقد حقق التصميم توازناً ملائماً بين ماضي الدولة ومستقبلها. وقد صمم المعمار الجناح مستوحيا من شكل طائر "الصقر" الذي يعد في تلك الامكنة رمزا لها. وجاء الجناح الذي تضمن سقفه المصنوع من الفولاذ ومزود بقدرات حركية معاصرة وعناصر تصميمية مبتكرة كي يمكن ان تتوائم مع متطلبات الاستدامة. فمن خلال 28 "جناحاً" متحركاً، يمكن لسقف الجناح ان ينشر اجنحته "لحصاد" الطاقة عبر تلك الالواح الكهروضوئية المتكاملة. وعن عمارة جناح الامارات يتحدث المعمار بانه حاول ان "يعكس في تصميمه للجناح هوية دولة الامارات وروحها الريادية مع تعزيز الارتباط المتوازن بين ماضي الدولة وحاضرها ومستقبلها"
ادناه اقوال وتصريحات "سَانْتِيَاغُو كَالَاتْرَافَا"، اخترتها وجمعتها من ندوات ومحاضرات ولقاءات صحفية شارك بها؛ اراها تعكس بوضوح "ذهنية" المعمار وتوضح جوهر مقاربته التصميمية.
" لقد كان لدي اهتماماً خاصاً بالرياضيات وبالرسم، ولهذا اهتميت بالعمارة، هي التى وجدت فيها نوعاً من توازن فيما بين العلوم الصرفة والابداع".
"انا احب المشاريع الحضرية الكبرى، فهي توفر حياة افضل ومتعة كبيرة للناس. بالنسبة اليّ تمثل تلك المشاريع تحدياً، يتعين عليّ مجابهته دوماً".
"علينا ان ندمج المشهد الحضري مع الطبيعة. في هذا المعنى تعد الجسور وسيلة مثالية لذلك. اذ انها بتقاطعها مع الممرات الحضرية تجلب جزءا من الطبيعة الى المشهد الحضري".
" عندما ابدأ العمل في مشروع جديد، فاني اولي اهمية كبيرة الى خصوصية المكان؛ انها بمثابة نقطة الشروع لافكاري. وفي هذا الصدد فان "التخطيط السريع" Sketch هو تعبير اولي لتلك الافكار".
" تفتَقَرَ العمارة المعاصرة الى توليفة وتركيبة تجمع ما بين الافكار الابداعية المجردة مع الجانب العملي. واسعى في جميع مشاريعي التى اعمل عليها الى تحقيق مثل ذلك العنصر التوازني".
" بامكان التكنولوجيا مع الهندسة خلق "عمارة شاعرية". اذ تغدو المحددات التكنولوجية الآن اقل تكبيلا لنا. يتعين علينا ان نكون اكثر جرأة في تطلعاتنا، وتحقيق افكار مثيرة للاهتمام!".
" من السهل بمكان رؤية صفاء الاشكال في الرسم او في النحت، ولكن ليس في العمارة. اعترف باني حاولت مراراً وتكراراً خلق ثمة "تصميماً" جديداً خالصاً سواء في "الشكل" او في "المحتوى"، ولكن بدون جدوى!".
" تتواجد "العمارة" للناس. وتؤثر الاجسام البشرية عليها (على العمارة) ان كان ذلك في مجالات التناسب والايقاع والابعاد".
"ينتمي <المعمار> و<المهندس> الى ذات المهنة. فليس بينهما اختلافات كبيرة. وقد قُدّر لي النظر الى العمارة بصفتها "نوعاً" من فن (كما كان تنظر اليها، بحق، الاجيال السابقة)، والاجدر، الآن، ان ينظر الى الهندسة بكونها "فناً" بحق!".
"انه لامر مثير للسخرية، فانا مفتون بالنقل: احب الجسور. ومع هذا، فاني لا امتلك اجازة سوق، تمحني الشعور شخصيا بارتدادات نوعية عملي!".
" لا تثيرني نوعية التصاميم البسيطة. فجل اهتمامي منصبا نحو إجتراح مناخ محلي للمكان. يمكن به ان يسهم، احياناً، في تغيير نوعية حياة السكان. وكمثال على ذلك مبناي في احد احياء برشلونة الفقيرة، التى غيرت كثيرا من اسلوب حياة الناس هناك، حتى انها جلبت انتباه المسؤولين والمستثمريين للشروع في أعمال بنى تحتية آخرى".
"الهدف من عمارتي ومبانيي هو جعل المدن فريدة من نوعها، مع اثراء التجربة الانسانية في هذا المجال".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً>

حفيد البي بي سي لميسلون هاديهي.. ليست مجرد حكاية عابرة

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

"خيارات" رحلة لاستكشاف الحياة الخاصة لليف اولمان

جمال حسين علي: ليس لدي اهتمامات أدبية حسب.. بل أنا مخلوق من الأدب

مقالات ذات صلة

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!
عام

قل لي أية لعبة تلعب وسأعرف من أنت!!

ماركوس دو سوتوي*ترجمة: لطفية الدليميكنت أظن أنّ لعبة الثعابين والسلالم Snakes and Ladders التي كنت العبها منذ صباي مع شقيقتي – هي ابتداع غربي تماما؛ حين كنا نذعن لرحمة حجر النرد الذي يتحكم بمصير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram