المدى / تبارك المجيد
اعتمد العراق في السنوات الأخيرة على أسلوب البناء العمودي، مثل المجمعات السكنية، كحل لأزمة السكن وتوفير مساكن للأفراد ذوي الدخل المحدود. ومع ذلك، بدلاً من تحسين الوضع، يبدو أن الأزمة قد تفاقمت. في البصرة، يُلاحظ احتكار هذه المجمعات السكنية من قبل كبار المستثمرين، الذين قد يكونون أيضًا متورطين في عمليات غسيل الأموال، مما يساهم في تفاقم أزمة السكن.
يُعزى هذا الوضع إلى الفساد المستشري في البصرة، بالإضافة إلى وجود دعم حكومي يتيح للمستثمرين تجاوز الأسعار المقررة. ونتيجةً لذلك، فإن الأزمة السكنية تتعمق أكثر، بينما تعاني الطبقات الفقيرة من عدم القدرة على الحصول على مساكن تتناسب مع قدراتها المالية، وفقاً لمراقبين.
ملف “شائك”!
وصف الناشط السياسي من محافظة البصرة، محي قاسم، ملف المجمعات السكنية بأنه “قضية شائكة ومعقدة”، مرجعًا السبب الرئيسي وراء هذه التعقيدات إلى “الفساد المستشري في المؤسسات”، والذي أصبح من الصعب السيطرة عليه من قبل هيئة الاستثمار أو الحكومة المحلية.
وأوضح قاسم في حديث لـ(المدى) أن “العديد من العقارات والمجمعات السكنية تم حجزها وشراؤها من قبل شخصيات متنفذة في المحافظة، بهدف غسل أموالهم وإخفائها بطرق غير شرعية عبر الاستثمار في العقارات”. وأضاف أن “هؤلاء الفاسدين يلجؤون إلى شراء العقارات بأسماء أقاربهم وأفراد عائلاتهم، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على العقارات وارتفاع أسعارها”.
وأكد قاسم أن “هذه المشكلة ليست حصرية لمحافظة البصرة، بل منتشرة في جميع أنحاء العراق”. كما أشار إلى جانب آخر من المشكلة يتمثل في احتكار إنشاء المجمعات السكنية من قبل فئة معينة من الشركات أو المطورين، مما يسهم في ارتفاع الأسعار.
كما لفت إلى غياب الرقابة الحكومية كعامل ثالث يفاقم الأزمة، حيث تبقى أسعار العقارات مرتفعة بشكل كبير رغم التسهيلات الحكومية في استيراد المواد الإنشائية وإعفاءات الضرائب وتوفير الأراضي بأسعار رمزية.
وختم قاسم بالقول إن “هذه العوامل الثلاثة – الفساد، وغياب الرقابة الحكومية، واحتكار تطوير المجمعات السكنية – تؤدي في النهاية إلى الارتفاع الكبير في أسعار العقارات”. وأعرب عن اعتقاده بأن المشكلة تتعلق بأطراف حكومية على مستوى عالٍ، مما يجعل معالجتها أمرًا صعبًا دون تدخلات جادة وفعالة.
في ذات السياق، يعرب الحقوقي والناشط زين العابدين من محافظة البصرة عن قلقه الشديد إزاء وضع الاستثمار في المجمعات السكنية وتأثيره على أسعار العقارات في المحافظة. وقال لـ “المدى” إن “الاستثمار في هذا القطاع يشهد تعقيدًا واحتكارًا كبيرين، مما أسفر عن ارتفاع غير مسبوق في أسعار العقارات، وهذا يجعل من الصعب على المواطنين ذوي الدخل المتوسط أو المحدود الاستفادة من هذه المجمعات”.
وأردف قائلاً إن “الغرض من بناء المجمعات السكنية العمودية كان لحل أزمة السكن وتوفير مساكن خاصة للفئات الفقيرة والمستأجرين، من خلال توفير وحدات سكنية بأقساط ميسرة تتماشى مع مستوى المعيشة لعامة الناس، لكن ما يحدث الآن هو العكس تمامًا، حيث الأسعار خيالية ولا تتناسب مع قدرات الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط”. وأضاف: “المجمعات السكنية ومساحة الاستثمار فيها محتكرة من قبل فئة معينة، حيث تُمنح الأراضي لأغراض الاستثمار العقاري لأشخاص محددين ولرؤوس أموال كبيرة. هذا الوضع يزيد من صعوبة حصول المواطنين ذوي الدخل المحدود على سكن مناسب”.
وأشار زين العابدين إلى وجود تباين واضح في مستوى الرفاهية التي تقدمها هذه المجمعات، مما أدى إلى احتكارها من قبل الطبقات العليا، دون أن تأخذ الجهات الحكومية في الاعتبار احتياجات الفئات الأخرى. وأوضح أن “الأراضي الممنوحة من قبل البلديات لغرض الاستثمار في هذه المجمعات تمنح لشريحة معينة، مما ينسجم مع طبيعة المجمعات السكنية الفاخرة التي تُشيد على أرض الواقع”.
وأشار إلى أن “الوضع الحالي يعكس تدخلًا كبيرًا من قبل شركات عملاقة ونفوذ سياسي متغلغل في الدولة، مما يجعل السيطرة على أسعار العقارات، التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا نتيجة للاحتكار والجشع في الاستثمار العقاري، أمرًا بالغ الصعوبة”. وأضاف أن هذا الوضع أدى إلى زيادة معاناة المواطنين البسطاء، خاصة أولئك الذين يعيشون في العشوائيات أو المستأجرين من ذوي الدخل المحدود.
واختتم زين العابدين حديثه بالتأكيد على ضرورة أن توفر الدولة سكنًا معقولًا ومناسبًا لهذه الفئات، بحيث يكون بإمكانهم تسديد أقساطه والعيش بكرامة، كما يحدث في بقية دول العالم. وانتقد السياسات الحالية التي تدفع بهذه الفئات إلى البقاء في مناطق غير مناسبة أو مواجهة أوضاع معيشية قاسية دون دعم حقيقي من الحكومة.
ويرى أن تصريحات بعض المسؤولين التي تربط بين ارتفاع أسعار العقارات وزيادة دخل المواطنين لا تعكس الواقع، بل تسهم في تعزيز “التمييز الطبقي واحتكار الفرص من قبل النخبة السياسية والاقتصادية، مما يؤدي إلى تهميش باقي السكان بشكل واضح وصريح.”
سياسات غير مدروسة!
يرجع الخبير الاقتصادي عبد السلام حسن حسين أسباب ارتفاع أسعار العقارات في كل من البصرة وأربيل إلى التدخلات الخارجية والسياسات الحكومية غير المدروسة. وأوضح حسين أن موقع البصرة كـ”بوابة للخليج” يجعلها عرضة للاستثمارات الخليجية الضخمة، حيث يتم تسجيل العقارات بأسماء وسطاء لصالح مستثمرين خليجيين أثرياء. وأضاف أن الوضع في أربيل ليس مختلفًا، حيث يُساهم دخول رؤوس أموال ضخمة من الخارج في تضخم الأسعار بشكل غير مسبوق.
وأشار حسين لـ(المدى) إلى أن “ظاهرة الاستثمارات الوهمية تزيد من تعقيد الوضع العقاري في العراق، حيث يتورط العديد من المواطنين في شراء عقارات بآمال زائفة دون معرفة مالكها الأصلي، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة لهم”. وذكر أن بعض هؤلاء المواطنين دفعوا مبالغ طائلة، وصلت إلى أربعين أو خمسين مليون دينار، دون أن يتمكنوا من الاستفادة من هذه العقارات.
وفيما يتعلق بدور الحكومة، أوضح حسين أن “الحكومة تمنح المستثمرين صلاحيات واسعة وتسهيلات كبيرة، على حساب المواطن البسيط الذي يجد صعوبة في الحصول على تراخيص للبناء على أرضه الخاصة بسبب الروتين الحكومي والاشتراطات التي تعيق تطور القطاع العقاري بشكل متوازن”.
كما أشار حسين إلى أن “الأحزاب السياسية تلعب دورًا مهمًا في دعم المشاريع العقارية الكبرى، مما يساهم في رفع الأسعار ويزيد من صعوبة قدرة المواطن العادي على الشراء في ظل ارتفاع الأسعار وغياب القدرة الشرائية”. وأكد حسين أن السوق يعاني من غلاء غير طبيعي، مما يفاقم من الأوضاع الاقتصادية للمواطنين ويزيد من معاناتهم في الحصول على سكن ملائم”.
ختاماً، اقترح الخبير الاقتصادي إعادة النظر في السياسات العقارية وتقييد نفوذ الأحزاب والمستثمرين الكبار لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين.
وكشفت رئيسة لجنة الاستثمار في مجلس محافظة البصرة، أطياف التميمي، خلال شهر آب عزم مجلس المحافظة استجواب رئيس هيئة الاستثمار علي عبد الحسين بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الوحدات السكنية. وقالت التميمي في بيان لها، إن “الأرض تمنح بشبه المجان إلى المستثمر فلماذا هذه الأسعار؟”، مبينة أن “البناء في تلك المجمعات لا يرتقي إلى مستوى عالٍ من ناحية الرصانة وغيرها”.
وبينت التميمي أن “المجمعات السكنية في البصرة لا يستطيع إلا أصحاب الدخل المرتفع شرائها، وبالتالي نريد أن نعرف لماذا هذه الأسعار الخيالية للوحدات السكنية”.
وتواصلت (المدى) مع مسؤول الإعلام في هيئة الاستثمار في البصرة للحصول على تفاصيل حول وضع المجمعات السكنية في المدينة. لكن المسؤول أفاد بأن الهيئة “أوقفت مؤقتًا منح التصريحات المتعلقة بالاستثمار في المجمعات السكنية فقط”، دون إيضاح الأسباب!