فرانسوا فاتشيني

ترجمة: عدوية الهلالي

تكمن أصالة أيرلندا في أنها دولة كانت نسبة الإنفاق العام فيها منخفضة بالفعل في عام 1995، وقررت خفضها أكثر. وهي الأدنى في الاتحاد الأوروبي بنسبة 24.38‌% في عام 2021.
وبالعودة إلى الوراء،يمكن أن نربط أيرلندا بالأراضي الزراعية المجدبة والحادثة الدرامية للمجاعة عام 1848 التي تسببت في هجرة جماعية. فما الذي يمكن أن يفسر ما يمكن أن نسميه معجزة اقتصادية؟
وبما أن العلم لا يؤمن بالمعجزات، فإن تاريخ الاقتصاد الأيرلندي والسياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومات الأيرلندية لابد أن تكون قادرة على مساعدتنا في الحديث عن مسار فريد من نوعه في أوروبا والعالم. فمن عام 1994 حتى عام 2008، سجلت أيرلندا معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.9٪ سنويا. ويعتقد عدد من المراقبين أن النمو الأيرلندي هو نتيجة المساعدات العامة الأوروبية والإغراق الضريبي.بل إن أزمة عام 2008 أظهرت عدم استدامة استراتيجية التنمية هذه على المدى الطويل.
إلا أن هذا الحكم لا يوضح الأسباب الحقيقية لهذا التوسع غير المسبوق للاقتصاد الأيرلندي. لقد خلفت المساعدات الأوروبية تأثيراً إيجابياً بالفعل على النمو الأيرلندي، ولكنها لا تفسر إلا جزءاً صغيراً للغاية من ازدهار البلاد. لقد مكنت هذه الإصلاحات من تحديث البنية التحتية للبلاد بشكل فعال، ولكنها لا تمثل سوى ربع، أو نصف نقطة على الأكثر، من النمو السنوي بمعدل متوسط ​​قدره 8‌% سنويًا خلال الفترة 1987-2004. ومن المهم أيضًا أن نتذكر أن اليونان والبرتغال استفادتا أيضًا من المساعدات الأوروبية بهذا المبلغ الضخم وكانت نتائجها مختلفة تمامًا. وأخيراً، اعتباراً من عام 2006، أصبحت أيرلندا مساهماً صافياً في الاتحاد الأوروبي. ويعني التعافي الذي أعقب أزمة الرهن العقاري الثانوي أيضاً أن أيرلندا لم تعد تُعامَل باعتبارها دولة تستفيد من أوروبا. لقد اخترعت أيرلندا نموذجا حقيقيا للتنمية المستدامة.
ويتم تطبيق هذا النموذج تدريجياً، لكن يمكن أن تعود أصوله إلى وصول حكومة بقيادة تشارلز هوغي إلى السلطة، ويدعمها حزب فيانا جايل الذي يمكن وصفه بأنه ليبرالي محافظ ومؤيد لأوروبا. ولا يزال هذا الحزب يحكم أيرلندا، إذ ينتمي إليه رئيس الحكومة الأيرلندية سيمون هاريس.
في عام 1987، كان وزير المالية الذي ألزم البلاد بما يسمى باستراتيجية تالاغت هو راي ماك شاري. ويتضمن ذلك خفض الإنفاق العام وتقليص الديون من أجل تمويل سياسة التخفيضات الضريبية وتعزيز القدرة التنافسية السعرية وغير السعرية للشركات التي تنتج على الأراضي الأيرلندية.والمعجزة الأيرلندية ليست مفاجئة بهذا المعنى. إنها نتيجة لسياسة التجارة الحرة المصحوبة بسياسة ضريبية وتنظيمية مناسبة.
ويذكر بأن فتح الحدود من خلال زيادة الضرائب أو الضرائب التنظيمية يعني منع المرء، من ناحية، من الاستفادة من مكاسب العولمة، ومن ناحية أخرى، توسيع العجز في ميزانه التجاري.وبهذا المعنى فإن السياسة المالية التي تنتهجها أيرلندا تشكل أحد مفاتيح نجاحها الاقتصادي لأنها تخلق الظروف المالية المواتية للإنتاج. ويعد تخفيض الضرائب على الشركات بشكل خاص، فضلا عن خفض الإنفاق العام، من العلامات الرئيسية لهذا النموذج التنموي.
ومنذ عام 1980، خضعت شركات التصنيع ثم الشركات المالية لمعدل ضريبي خاص قدره 10‌% على أرباحها، مما جعل ضريبة أيرلندا جذابة للاستثمارات الأجنبية المباشرة (آي بي إم، وإنتل، وهيوليت باكارد، وديل، ومايكروسوفت، وفايزر، وأبوت، وجيدانت، وميترونيك… إلخ.)..وكانت ثقافة الأعمال المؤيدة للسوق لدى الأيرلنديين أيضًا عاملاً محددًا لموقع الاستثمارات الأجنبية المباشرة على الأراضي الأيرلندية. إنها ليست مجرد مسألة خفض الإنفاق العام، فالهدف من السياسات المطبقة هو زيادة إنتاجية اليورو العام الملتزم به. ويتعلق الأمر بعمل المزيد بموارد أقل.وتشكل خطط الأعوام 2011-2013 و2014-2016 أمثلة جيدة على هذه القدرة على إجراء إصلاحات في القطاع العام، فقد خفضت خطة 2011-2013 القوى العاملة وميزانيات الإدارات العامة دون تدهور جودة الخدمات العامة.
وساهمت خطة 2014-2016 في تحديث الإدارة العامة وتمكين تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاجية. لقد تم تنظيمها، في المقام الأول، حول برنامج Jobpath. وقد تم دعم هذا البرنامج من قبل إدارة الحماية الاجتماعية ويهدف إلى إعادة العاطلين عن العمل إلى سوق العمل. كما أيد تعزيز الحكومة الإلكترونية من خلال توزيع البطاقات الرقمية التي تتيح الوصول إلى العديد من الخدمات العامة، وسياسة الشباك الواحد والخدمات المشتركة. ومن بين هذه الخدمات المشتركة، كان هناك كشوف مرتبات الوكلاء العموميين (لإدارة الموارد البشرية والمعاشات التقاعدية)، وMyPay (لإدارة كشوف مرتبات السلطة المحلية).
وكل هذه التدابير خلقت ظروفا مواتية للشركات. لقد منحتهم الوسائل اللازمة لتحقيق أقصى استفادة من فوائد العولمة والسوق الموحدة. وفي عام 1987 كانت نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي 50‌%. وفي عام 2000 كانت النسبة 80‌%.
ان الدرس الرئيسي الذي تعطيه أيرلندا لفرنسا هو أنها تمكنت من الاستفادة من عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ليس لأنها تلقت مساعدات عامة، بل لأنها كانت قادرة على تنفيذ سياسة مكنت من تعظيم فوائد السوق، والعولمة.ومن هنا تبدو سياسة خفض الإنفاق والسعي المستمر لتحقيق مكاسب إنتاجية في القطاع العام وانخفاض معدلات الضرائب شرطا لنجاح سياسة التجارة الحرة. وبينما شهدت فرنسا انخفاضًا طفيفًا في درجة الحرية الاقتصادية خلال الفترة 1995-2024، حيث انتقلت من 64.4 إلى 62.5، فإن أيرلندا، على العكس من ذلك، عززت درجة الحرية لديها، حيث انتقلت من 68.5 في عام 1995 إلى 82.6 في عام 2024. مما يجعل هذا البلد واحدة من أكثر الحريات الاقتصادية احتراما في العالم، بل وأكثر من ذلك في الاتحاد الأوروبي.