فرات المحسن
أفضل من يقيم طبيعة الديمقراطية هم أهل البلد وليس مؤسسات أو هيئات أو مقيمون من غير أهله، أي أولئك الذين يتفاعلون ويتأثرون يوميا بمجريات وقواعد السلوك الديمقراطي وإجراءاته القائمة في مؤسسات الدولة، وطبيعة تلك الإجراءات المتخذة لعلاج المشاكل التي تحددها اعتراضات وشكوى الناس واحتياجاتهم.
مثل هذا التقييم يمثل الحلقة الأهم لشرعنة العلاقة بين السلطة والشعب. فهو يؤدي إلى تبسيط المشاركة الجماهيرية في الكشف عن المميزات الإيجابية لأعمال السلطة، وأيضا إظهار العيوب التي تتعرض لها مسيرة الديمقراطية. ويقدم العون ويساعد على رفع مستوى وعي الجماهير، ويمكنهم في كل مرة من معرفة المعايير التي يحتكم لها التقييم. ويسهم أيضا في تحديد أولويات الإصلاح المرجو لإنجاح مسيرة الديمقراطية. لذا يخضع هذا المسعى للعديد من الاشتراطات والأسس التي يستعان بها لتقييم المسيرة الديمقراطية.
من أولويات التقييم معرفة العقبات التي تعترض تطبيق المعايير الديمقراطية في علاقة المؤسسات السلطوية بالمنتفعين منها أو من يمسهم يوميا ومباشرة عمل تلك المؤسسات، وما هي المظاهر المميزة للتطور الديمقراطي في التعامل مع المرتبطين نفعيا معها. وقبل هذا البحث في وجود نظام مؤسساتي يدعم حقيقة تمثيل تلك المؤسسات لجمهورها، ومدى قدرة هؤلاء الناس على تحصيل حقوقهم دون مماطلة أو عناء. وهذه العلاقة التبادلية هي من يعطي عملية التقييم مصداقيتها. ويرحل هذا على باقي الفعاليات المؤسساتية الدستورية للدولة.
الديمقراطية معطى اجتماعي ثقافي يقدم للناس الضمانات لممارسة حقوقهم وواجباتهم وفق نظام تبادلي مع مؤسسات الدولة، ويبدأ هذا من تعريفهم وإرشادهم عن الكيفية في ممارسة الحق الانتخابي المقام على وفق طرق الشفافية والنزاهة، بعيدا عن الضغوط وفرض الخيارات المحددة. لتكون بالنتيجة وسيلة مهمة للقبول بحق الجميع بالتداول السلمي للمسؤوليات، وصولا لمبادئ التعامل المتكافئ بين الناس على أساس المساواة بالمواطنة واحترام حرية الرأي وضمانة حق التعبير دون تمييز وانتقائية، وقبل كل ذلك خضوع مؤسسات الدولة لرقابة الرأي العام، وفي المقدمة منه الإعلام غير الحكومي.
إقامة نظام ديمقراطي يستوجب توفر بيئة اجتماعية ثقافية سياسية تساعد وتساهم للقبول بفكرة الديمقراطية، بدءا من تبني رجال السلطة منهجا واضحا وصريحا في تركيبة دولة المؤسسات وفق مبدأ استشارة الشعب ومشاركتهم في اتخاذ القرارات المصيرية، وعندها يمكن الحديث عن تلك الطبيعة، وعن الشروط الموجب توفرها لمسمى التكوين الديمقراطي في هيكلة الدولة والمجتمع، ابتداءً من وجود أحزاب سياسية بأنظمة داخلية ديمقراطية تؤمن بالتعددية، وتعلن دون ريب، وبلا مماطلة عن قبولها التداول السلمي للسلطة، بعيدا وبالمطلق عن تركيبة التشكيلة المموهة والازدواجية بشطريها السياسي والمسلح. وعلى أن يتقدم قواعد عملها وجود برنامج سياسي اقتصادي مكشوف ومعرف للجمهور، مثلما مطروح للتداول وسط التنظيم الحزبي. وعلى أن تتطابق وتتوافق أنظمتها الداخلية مع سنن التشريع الدستوري للبلد. وتعلن دون مماطلة وتمويه عن مصادر تمويلها. وهذا ما يضمن وجود بيئة شعبية تدرك مسؤوليتها، وتتقبل من الحزب أطروحاته، وتساعد على إنضاج وتنفيذ مشاريعه، إن شعرت بحقيقة مساعيه الذاهبة للإصلاح الحقيقي والديمقراطية.
ولكن ومن خلال مراقبة طبيعة ومجريات البناء الحزبي الداخلي الممارس في العراق، يمكن ملاحظة استحواذ بعض الكتل والأفراد على مصادر القرار ومصادرتهم لوسائل التأثير والنفوذ، مما ينعكس على مشهد السلطة ليتم وسمها بالتمايز والتوزيع غير المنصف للقدرات والثروات، وهذا بدوره انعكس على تركيبة وأداء تشكيلات السلطة نفسها، وتأثيره السلبي في صناعة القرار السياسي السيادي.
منذ التشكيل الأول للسلطة بعد سقوط نظام البعث، لجأت الأطراف الحزبية إلى ما سمي بمصطلح التوافقية في إدارة السلطة، حيث لا يتخذ ويمرر أي قرار ومهما كانت طبيعته ومنفعته للشعب، دون توافق ورضا القوى السياسية الحاكمة عليه، وهذا يعني التخلي عن أي نوع من أنواع الاحتكام للمعايير الديمقراطية، ومشاركة الجماهير بصنع القرار، بالرغم من وجود برلمان وطني يعال عليه تشريع القوانين وإصدار النصوص لمعالجة الاختلال .
هناك أيضا وبشكل فج وسافر، تجري عمليات مصادرة واستحواذ مفزع للكثير من الثروات الوطنية والمال العام والسيطرة على أملاك وعقارات الدولة. ويرافق هذا النهب المستمر وغير القانوني، استعانة ظاهرة بقوى القمع الرسمية والشعبية، المتمثلة بقوى الأمن والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة، وتتسم تلك التعديات بالعنف المصاحب لفقدان الحقوق وإخفاء الأدلة بعيدا عن مساءلة ومقاضاة من القضاء .
ويلاحظ أن هناك عمليات فرض وتدخل سافر بشؤون القضاء لتغيير سير الوقائع وقمع المعترضين أو المطالبين بالحقوق أو تغيير نتائج التحقيق، وهذا ما أعلنه وبشكل سافر عبر تصريح إعلامي أحد أقطاب إدارة الدولة، دون أن يتعرض للمساءلة والحساب،وكأن الأمر بعيد جدا عن السلطة القضائية، ولا يشكل خرقا قانونيا وطعنا بشرعية المؤسسة القضائية والنصوص الدستورية. ولا يقتصر هذا الأمر على تلك الشخصية القيادية، بل هناك غيرها الكثير من المتبجحين والمفاخرين بقدراتهم على خرق القانون وإبطال قرارات القضاء. وهذا يعني بالمطلق عدم خضوع أصحاب المناصب الرسمية والسياسيين لحكم القانون وتحقيقات هيأة النزاهة ومحاسبة القضاء. ويمثل هذا الخرق الفاضح والفعل المستهجن حقيقة ناصعة عن ابتعاد الأحزاب والقوى المشاركة بالسلطة وعدم قناعتها بالنص الدستوري الخاص باستقلالية القضاء، وبسبب هذا وغيره من الخروق والتعديات على القوانين وقرارات القضاء، ما عادت للجمهور ثقة في النظام الحاكم بصفة عامة والقضاء بمقدمة ذلك، ولذا تثار الشكوك حول بعض قراراته وتصبح قدرته على تحقيق العدالة والنزاهة مصدر للريبة والظنون، وهذا وحده يفصح عن وجود هوة عميقة تمنع توفير البيئة السياسية والقانونية للمواطنة الصحيحة، والسلوك الرسمي المعني بتوفير الظروف المادية والمعنوية للديمقراطية، ولهذا يندفع الناس للنأي والابتعاد عن القواعد الدستورية والبناء الديمقراطي،ومن ثم يفضلون الاحتكام للمقاضاة خارج القضاء وحل خلافاتهم مجتمعيا. ويمثل هذا الملح اختبارا يوميا للنظام السياسي ومدى خضوعه لأحكام القانون والدستور، وتمسكه بالمعايير الديمقراطية مثلما يدعي قادته. وبسبب هذه المشاكل والخروق تتكشف صورة عدم قدرة السلطة على توفير الحماية لكافة أبناء الشعب ضد الانتهاكات والاضطهاد أو الخوف وتغييب الحقوق أو ثلمها، وانعدام الضمانات الكافلة لحق المواطن للوصول إلى العدالة بدرجة متساوية. ويعني هذا وبشكل صريح تجريد لوقائع نص عليها الدستور، وكفلت في مقدمة ما احتوته، حرية التعبير وعدم خضوع الناس للإكراه والقمع ووقوفهم سواسية أمام القانون والمقاضاة دون تمييز. ولكننا نلاحظ وعلى مدى سنوات طوال ومنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد اليوم، بأن قدرة المواطن تضمحل وتضعف أمام سطوة القوى الحاكمة واذرعها، وهذه القوى وحدها من يمتلك الإمكانات على كبح دعاوى أصحاب الشكاوى ومنعهم بالإكراه من الوصول إلى القضاء وضمان حصولهم على حقوقهم بدرجة متساوية مع المسؤول.
نطلع ونشاهد كل يوم الإجراءات المبتورة والقاصرة للحكومة الاتحادية، التي تؤكد حقيقة ناصعة عن كون ما يتخذ من معالجات وبسبب الصراع للاستحواذ على مصادر القوة والثروة، بأن حلولها ما عادت تمثل العلاج المفيد والناجح والمناسب لمشاكل عدة، هي من صلب حاجات الناس واهتماماتهم والمتمثلة بالغذاء والسكن والتعليم والصحة والماء والكهرباء والبيئة النظيفة وغيرها. مما ولد شعورا مستداما بعدم الثقة بقدرة الحكومة على حل تلك المشاكل التي باتت متراكمات كبيرة وكثيرة من معضلات عصية على الحل. ولا يقتصر الأمر على تلك العقد اليومية المتعلقة بتقديم الخدمات والمنافع للناس، وإنما تتعداها لمساحة واسعة من معضلات سياسية اجتماعية ثقافية اقتصادية تعجز السلطة عن وضع الحلول لها أو في الأقل تحجيمها وتقليل أضرارها.
ولا يقتصر الأمر في هذا التقصير الواضح ويقف عند حدود الحكومة الاتحادية ومؤسساتها، فالقصور يتعداها إلى مستويات أخرى ممثلة بالحكومات المحلية حيث تعاني اغلب المحافظات والإقليم أيضا، من ذات المشاكل المستعصية والغائبة عنها الحلول الناجعة، ولذات الأسباب التي تحيق بعمل السلطة الاتحادية.