المدى – تبارك المجيد
في شوارع العراق، لم يعد التسول مجرد طلب للمال بأساليب تقليدية، بل تطور ليصبح جريمة منظمة تستخدم أساليب مبتكرة لجذب تعاطف المارة واستغلالهم. ومن تسول الأطفال إلى التسول الإلكتروني، تحول المشهد إلى ظاهرة معقدة تهدد النسيج الاجتماعي والأمني في البلاد، حيث تتنوع الفئات المتسولة بين الفقراء والمحتالين وعصابات تستغل الأبرياء لتحقيق مكاسب غير مشروعة. ويحذر مراقبون في الشأن من خطورة عدم إيجاد حلول لهذه المشكلة.
كشف المركز الستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق أن إيراد المتسول الواحد يتجاوز 50 ألف دينار يوميًا، ويُقدر عدد المتسولين بحوالي 500 ألف متسول عراقي وأجنبي، مما يعتبره المركز "إحصائية مقلقة". واعتبر رئيس المركز، فاضل الغراوي، أن التسول بات جريمة منظمة تهدد أمن العراق واستقراره، مشيرًا إلى الزيادة الكبيرة في أعداد المتسولين خلال السنوات الأخيرة في جميع محافظات العراق، مما يمثل خطرًا حقيقيًا مقارنة بالسنوات السابقة. وأفاد الغراوي لـ(المدى) بأن المركز أجرى إحصائيات حول أنواع التسول المنتشرة في العراق، موضحًا أن "التسول التقليدي يمثل 10 في المئة فقط من مجموع حالات التسول، بينما تشكل الجريمة المنظمة 70 في المئة، والتسول الإلكتروني 20 في المئة" وأكد أن التسول أصبح "مهنة تُدار من قبل عصابات الجريمة المنظمة، حيث يتستر البعض خلف منظمات وهمية أو جمعيات مزيفة للمطالبة بمساعدات لأغراض العلاج أو غيرها، وأن معظم الأموال المكتسبة من التسول تذهب لهذه العصابات". وحذر الغراوي من التهديد الذي يمثله التسول على الأمن المجتمعي والاقتصادي والثقافي، مشيرًا إلى أنه "يعكس صورة مشوهة عن البلد". وأوضح أن الفئات الأكثر استغلالًا في هذه الظاهرة هم الأطفال والأحداث والفتيات، الذين يتم اختطافهم أو استغلالهم أو الاتجار بهم. وأضاف أن هناك متسولين من جنسيات عربية وأجنبية تقودهم عصابات الجريمة المنظمة. وفي ختام تصريحاته، دعا الغراوي الحكومة إلى ضرورة معالجة هذه الظاهرة من خلال القضاء على عصابات الجريمة المنظمة واعتبارها جزءًا من قانون مكافحة الإرهاب. كما طالب بإيداع المتسولين في دور إيواء أو مراكز شبابية وتقديم برامج تأهيلية ونفسية لهم، وخلق فرص عمل حقيقية، بالإضافة إلى إعادة النظر في المواد العقابية المتعلقة بظاهرة التسول.
الجانب القانوني!
يعاقب قانون العقوبات العراقي على جريمة التسول، حيث نصت المادة 390 من القانون رقم 111 لعام 1969 على اعتبار التسول جريمة جنحة يُعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد عن سنة لكل من تجاوز الثامنة عشرة من العمر ويمارس التسول في الطرق العامة. أما بالنسبة للأحداث الذين يمارسون التسول، فيتم إيداعهم في دور الإيواء والتشغيل، لكنها غير كافية لتقديم الدعم المطلوب، يقول الحقوقي سالم البياتي.
ويرجع البياتي العديد من العوامل التي أسهمت في تفاقم ظاهرة التسول، إلى: "الأزمات السياسية والاقتصادية والحروب التي أثرت بشكل كبير على المواطنين." وأضاف أن "معدلات الفقر ارتفعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، على الرغم من المبادرات الحكومية التي لم تعالج جوهر المشكلة، مما أدى إلى استمرارها".
واشار البياتي، إلى أن "إيرادات المتسول تتراوح بين 50 إلى 300 ألف دينار عراقي يومياً، مما يجعل التسول مهنة يصعب التخلي عنها".
وأضاف البياتي أن "دخول العمالة الأجنبية في عالم التسول وتنافسها مع المتسولين العراقيين جعل من الصعب التمييز بين المتسولين المحليين والأجانب." ورغم أن القانون العراقي ينص على عقوبة الحبس لمدة شهر للمتسولين في الطرقات العامة، وتشديد العقوبة في حالة التظاهر بالإصابة أو الإعاقة، إلا أن هذه الإجراءات لم تحد من انتشار ظاهرة التسول في شوارع بغداد وتقاطعاتها".
وأشار البياتي إلى أن "الفترة الأخيرة شهدت تطورًا في أساليب التسول، حيث لم يعد المتسول يكتفي بالوقوف أو الجلوس عند إشارات المرور والشوارع، بل بدأ يتقمص أدوار مختلفة لجذب انتباه الناس. فالبعض يتسول عن طريق مسح زجاج السيارات دون إذن، أو يبيع العلكة، أو يدّعي المرض، بينما يلجأ آخرون إلى إيقاف السيارات وطلب إيصالهم إلى مكان معين، ثم يطلبون المال بحجة أنهم من خارج المدينة وليس لديهم أجرة النقل." وختم البياتي بأن "ظاهرة التسول تمثل مشكلة كبيرة تتطلب حلولًا قانونية وواقعية، وزيادة وعي المواطنين بعدم التعاطف مع المتسولين." ودعا إلى "تضافر جهود المؤسسات الحكومية والمجتمعية ذات الصلة لمحاربة هذه الظاهرة، والوصول إلى حلول قابلة للتطبيق في المستقبل القريب."
أساليب حديثة
لجأ المتسولون مؤخراً إلى تطوير أساليب جديدة لجذب تعاطف المارة. وبحسب الباحث الاجتماعي محمد الشمري، يمكن تقسيم المتسولين إلى ثلاث فئات رئيسية: الفئة الأولى تضم الفقراء والنازحين الذين لم يتمكنوا من الحصول على دعم من الرعاية الاجتماعية أو الذين اضطروا إلى مغادرة مناطقهم بسبب الصراع. هؤلاء يعتمدون على التسول كوسيلة للبقاء. الفئة الثانية هم المحتالون الذين يلجأون إلى حيل ذكية لكسب تعاطف الناس، مثل التظاهر بالمرض أو الإعاقة، أو الادعاء بفقدان المال أو الحاجة إلى مساعدة طارئة.الفئة الثالثة، الأكثر خطورة، هي العصابات التي تدير عمليات التسول بشكل منظم، مستغلة الأطفال والنساء في عمليات التسول، مما يشكل نوعًا من الاتجار بالبشر.
وتحدث الشمري لـ(المدى)، عن الأساليب الحديثة التي يعتمدها المتسولون في العراق للتهرب من الحملات الأمنية. وذكرت حادثة شخصية قائلة: "في أحد الأيام، أوقفني شاب بمظهر جيد طالبًا مبلغًا بسيطًا (500 دينار عراقي). بعد أن تجاهلته لفترة قصيرة، عدت وأعطيته المبلغ، معتقدةً أنه قد يكون نسي المال. لكن بعد مسافة قصيرة، أوقفني شخص آخر وطلب نفس المبلغ بنفس الطريقة. بعد أسبوع، واجهت نفس الشاب يطلب المبلغ مرة أخرى، وأدركت أن هذه طريقة جديدة لكسب المال". وارجع أسباب التسول إلى مجموعة من العوامل مثل الفقر، البطالة، الحرمان، وسوء التربية، إضافة إلى غياب العدالة الاجتماعية. وشددت على ضرورة وجود قوانين صارمة للحد من هذه الممارسات، وعلى أهمية تعاون المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لمواجهة هذه الظاهرة.
ختاماً، شدد الشمري على أهمية عدم تعاطف المواطنين مع المتسولين الذين يستغلون الآخرين لتحقيق مكاسب غير مشروعة، داعية إلى دعم الجهود الرسمية في محاربة هذه الظاهرة بشكل فعّال ومستدام.
استيرادهم!
الباحث الاقتصادي عبد السلام حسن حسين اكد لـ (المدى)، بأن العراق يواجه ظاهرة خطيرة تتعلق بـ "استيراد المتسولين"، مما يشكل تهديدًا كبيرًا على الاقتصاد والمجتمع العراقي. وأوضح حسين قائلاً: "نحن أمام واقع مؤلم حيث أصبح العراق بلدًا يستورد المتسولين، وهذا أمر مؤسف ومؤذٍ للعراق."
وأشار حسين، إلى أن "هناك العديد من الثغرات القانونية واستغلال السماسرة الذين يقومون بإدخال هؤلاء المتسولين إلى البلاد بشكل غير شرعي". كما نوه بأن هذه الظاهرة تعد جزءًا من مشكلة أعمق ترتبط بضعف الرقابة الحكومية والاختراقات في الأجهزة الرسمية، مما يسمح بانتشار هذه الظاهرة بشكل مقلق". وأكد حسين أن الاقتصاد العراقي يمتلك إمكانيات كبيرة، لكنه يعاني من التدهور بسبب سوء إدارة المسؤولين الكبار. وقال: "الاقتصاد العراقي قوي بنسبة مئة بالمئة، ولكن من يضعفه هم المسؤولون الكبار." وأضاف أن قضايا الفساد، مثل "سرقة القرن"، تؤدي إلى تآكل السيولة المالية وتؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد.
وتحدث حسين عن انتشار ظاهرة التسول بطرق إجرامية، محذرًا من خطورة عدم معالجة هذه الظاهرة. وأوضح: "اليوم، أصبح المتسول عندما لا تعطيه المال، يتوقع أن يعتدي عليك." وذكر حادثة شخصية شاهدها في نفق الشرطة بالعاصمة بغداد، حيث تعرض شخص للاعتداء بسبب عدم تقديم المال لأحد المتسولين.
ودعا حسين الحكومة إلى تبني سياسات رقابية صارمة لمعالجة هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن "بعض الحلول الخاطئة تسهم في تفاقم المشكلة"، كما اقترح استخدام الفائض المالي من قطاعي النفط والعقارات لتوفير دخل للمواطنين دون الحاجة إلى اللجوء للتسول.