محمد الربيعي
(الحلقة 4)
التجربة السنغافورية
سنغافورة، دولة صغيرة تقع في أقصى جنوب شبه جزيرة الملايو، تُعرف بتنوعها الثقافي والعرقي، حيث يعيش فيها مزيج من المالاويين والصينيين والهنود وغيرهم. تتمتع سنغافورة باقتصاد قوي ومزدهر، يعتمد بشكل كبير على التجارة والخدمات المالية. كما انها تُعتبر واحدة من اكثر الدولامانا ونظافة في العالم، بفضل القوانين الصارمة والبنية التحتية المتطورة.
لا أخفي سرا اذا قلت إنني من أشد المعجبين بنظام التعليم السنغافوري، وكثيرا ما كتبت عن هذا الموضوع وشرحت تفوق هذا النظام على الأنظمة التربوية العالمية الأخرى. وبسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة، والذي بدأ في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث ساهمت بشكل فعال في تطوير علم البيولوجيا التطبيقية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لانتاج العقاقير الطبية. وقد أشار إلى ذلك "لي كوان يو"، مؤسس سنغافورة الحديثة، حيث قال ان سنغافورة قامت "بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، واستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان، وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، مما أدى إلى تطوير صناعة متقدمة للعقاقير الطبية". هذه إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات (راجع مقالنا: سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014).
مميزات نظام التعليم السنغافوري
-نظام التعليم في سنغافورة هو بلا شك الأفضل في العالم. في الواقع، إن الطلاب السنغافوريين هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم والذين يسجلون باستمرار درجات عالية في التقييمات الدولية مثل برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) ودراسة الرياضيات والعلوم الدولية (TIMSS)، مما يعكس فعالية النظام التعليمي في إعداد الطلاب لمواجهة التحديات العالمية.
- بالإضافة للتفوق الأكاديمي، يولي نظام التعليم في سنغافورة أيضا أهمية كبيرة لتعليم القيم الانسانية وتنمية الشخصية وتعزيز المهارات المهمة للقرن الواحد والعشرين مثل التفكير النقدي والتعاون والإبداع.
- تضع سنغافورة قيمة عالية على استقطاب وتطوير والاحتفاظ بمعلمين عاليين الجودة. يخضع معلمون في سنغافورة لتدريب شاق وتطوير مهني لضمان أنهم مجهزون لتقديم تعليم عالي الجودة للطلاب.
- تم تصميم المنهج الدراسي في سنغافورة بعناية لتزويد الطلاب بأساس قوي في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغة. يتم مراجعة وتحديث المنهج الدراسي بانتظام لضمان بقائه ذو صلة وتلبي احتياجات عالم متغير.
- يشدد نظام التعليم في سنغافورة على أهمية التعلم مدى الحياة والتحسين المستمر. يتم تشجيع الطلاب على اعتناق نمط العقل التوسعي ومتابعة فرص التعلم خارج الفصول الدراسية.
- تستثمر سنغافورة بشكل كبير في التعليم، وتوفر للمدارس مرافق حديثة وتكنولوجيا محدثة ومجموعة واسعة من الموارد لدعم التدريس والتعلم.
- يتمتع نظام التعليم في سنغافورة بشراكات قوية مع الصناعة والجهات الحكومية والمنظمات المجتمعية لتوفير للطلاب تجارب تعلم عملية وفرص للتدريب العملي والإرشاد المهني.
ماذا يمكن أن يكون السبب في أن نظام التعليم في سنغافورة هو الأفضل في العالم؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها منهم؟
تهدف وزارة التعليم السنغافورية إلى "تطوير شغف التعلم لمساعدة الطلاب على تحقيق إمكاناتهم الكاملة واكتشاف مواهبهم ومساعدتهم على التفوق". وقد اختارت منهجا فريدا من نوعه للتعليم مع التركيز الأساسي على ضمان نمو الفرد النفسي والاجتماعي. يعتمد تعليم سنغافورة على الأساليب المهنية النوعية والماهرة، وهذا هو سبب إنفاق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم.
جودة التعليم السنغافوري فريدة من نوعها من حيث طرق التدريس والتعلم وتميز نفسها عن البلدان الأخرى من خلال التركيز على جودة التعليم بدلاً من كميته.
رواتب المعلمين سخية وليس عليهم أن يتحملوا وطأة السياسات الاقتصادية القاتلة للحكومة. يتم منحهم مكانة أكثر شرفاً في المجتمع من أي مسؤول حكومي آخر. من النادر العثور على أي خطأ في المدرسة فالمرافق مجهزة بأفضل التجهيزات،ونسبة الطلاب إلى المدرسين هي 15: 1 في المرحلة الابتدائية و 11: 1 في المرحلة الثانوية، اما معدل التسرب فهو لا يكاد يذكر ونظام القبول صارم للغاية. وسيلة التدريس هي اللغة الإنجليزية فقط ويعد "التعلم المبهج" و"الإحساس بالوطنية" لدى الأطفال و"تعلم أقل لتعلم المزيد" من السمات المهمة لنظام التعليم في سنغافورة.
إذا تحدثنا عن المنهج، فقد اعتمدت الدولة منهجا يمكن مواطنيها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. على الرغم من أن هذه الدولة كانت تحت الحكم البريطاني لفترة طويلة، إلا أنها لم تتبنى نظام التعليم الغربي بالكامل. يركزون على قراءة وتدريس الرياضيات والعلوم واللغة الأم من المستوى الابتدائي والى المستوى الاعدادي، وتم تبني المواد المهنية الأكثر توجهاً عملياً بدلاً من الموضوعات التقليدية في سنوات الثانوية وما بعدها فمعظم المدارس في سنغافورة هي مدارس موجهة للتطوير المهني. ومن ثم، يوجد حد أدنى لعدد ساعات التدريب المهني لكل معلم.
يعتبر عدم قيام الوالدين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة جريمة جنائية بموجب قانون الحق في التعليم لعام 2010. والتي بموجبه يمكن معاقبتهم أو تغريمهم. كما يجب توفير "التعليم المنزلي" والموافقة عليه بصورة خطية من إدارة التعليم. لأن الحكومة هناك ملتزمة ومسؤولة عن التطوير النوعي لمواطنيها.
وفي مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية، قال رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونج":"إن نظام التعليم مصمم لتدريب الطلاب على الوظائف التي يمكنهم شغلها. ولهذا السبب، عندما يتخرج الطلاب، يحصلون على عمل على الفور."
ولكن هذا ليس إلا غيض من فيض، حيث يوجد الكثير لنتعلمه من التعليم في سنغافورة. ومنه ما يلي: - يعلم المنهج مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي.
يهتم التعليم السنغافوري بالجوهر الحقيقي للتفكير النقدي ويدرب الطلاب على تعزيز مهاراتهم بشكل كامل لحل مشاكل مكان العمل ذات الصلة، بالإضافة إلى ايجاد الحلول بفعالية. ويقدم مجموعة متنوعة من أساليب التفكير التي يمكن الطالب من استخدامها لصالحه. ويكتسب الطلاب من خلاله نظرة ثاقبة حول كيفية تقييم عبارات المشكلة المختلفة بشكل فعال وتقديم استنتاجاتهم بطريقة منطقية ومقنعة. - يركز منهج سنغافورة على تعليم الطلاب مهارات إبداعية وحل المشكلات.
- يتم تعليم الطلاب موضوعات محددة توفر المعرفة العملية والمهارات التي تمكنهم من حل تحديات العالم الحقيقي.
- بالإضافة إلى ذلك، يقوم جميع أصحاب المصلحة في مجال التعليم بتقييم وتحسين النظام المدرسي باستمرار لتحسين الأداء.
معايير التعليم العالي للمعلمين - قبل أن يتم توظيف المرشحين من الحاصلين على شهادات جامعية في التعليم بشكل كامل، يتم اخضاعهم لتمرين وفحص صارم.
- يتم أيضا تأهيل المعلمين وتطويرهم بكفاءة قبل تلقي التدريب.
- بمجرد اختيار المرشحين لمنصب معلم، يتم نقلهم إلى تدريب مهني كامل أوصى به المعهد الوطني للتعليم.
- بعد الانتهاء من التدريب، يأخذ المعلمون المرشحون دورة تدريبية في التطوير المهني تستغرق 100 ساعة.
برنامج إنكليزي لا مثيل له
أنشأت هيئة التعليم في سنغافورة برنامج تعلم وقراءة اللغة الإنجليزية في عام 2006 لمساعدة الطلاب متعددي اللغات على تعلم اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الاولى في البلاد، ويشتمل البرنامج على تقنيات الدراما ولعب الأدوار لتحسين المهارات اللغوية للطلاب.
مناهج الرياضيات الرئيسية
على الرغم من أن الرياضيات هي أصعب موضوع للعديد من الطلاب حول العالم، إلا أن نظام التعليم في سنغافورة ينتج أفضل الطلاب في الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وهذا يرجع إلى النهج الكفء للمؤسسة التعليمية الذي يشجع الطلاب على تعلم الرياضيات باستخدام الوسائل البصرية والعملية مثل المخططات الشريطية والكتل وما إلى ذلك.
مسارات تدريب مختلفة
نجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.
يوفر النظام التعليمي في سنغافورة للطلاب مسارات وتفصيلات تعليمية مختلفة. وتم تصميم نظام التعليم لتشجيع الطلاب على إيجاد شغفهم واهتماماتهم.
يحصل الطلاب السنغافوريون على مسارين للتدريب المهني، وكليات الفنون التطبيقية، وكليات المبتدئين التي تؤدي إلى التعليم الجامعي.
تم تصميم النظام المدرسي لتعزيز قدرات التعلم ونقاط القوة لدى الموهوبين مع إنه يمنح جميع الطلاب فرصًا متساوية في العالم الحقيقي.
الخلاصة
نظام التعليم في سنغافورة يتميز بعدة جوانب تجعله من بين الأفضل في العالم. تستثمر سنغافورة حوالي 20% من ميزانيتها الوطنية في التعليم، مما يعكس التزام الحكومة بتوفير تعليم عالي الجودة لجميع الطلاب. يركز النظام التعليمي في سنغافورة على تطوير مهارات وقدرات كل طالب بشكل فردي، مما يساعد في تنمية مواهبهم الفريدة وتوجيههم نحو المجالات التي يبدعون فيها. يتم تدريب المعلمين بشكل مستمر لضمان أنهم يستخدمون أحدث الأساليب التعليمية وأكثرها فعالية، مما يضمن أن الطلاب يحصلون على أفضل تعليم ممكن. بالاضافة الى ذلك، المدارس في سنغافورة مجهزة بأحدث التقنيات التعليمية، مما يساعد في توفير بيئة تعليمية محفزة وممتعة للطلاب.
اخيراً، لا يسعناإلا التأكيد على أن سنغافورة تتمتع بأفضل نظام تعليمي بسبب نظام التربية والثقافة من الدرجة الأولى في البلاد. وليس سراً أنه يمكننا تعلم الكثير من سنغافورة فيما يتعلق بأساليب التعليم والتعلم لتحسين قطاع التربية والتعليم العالي في بلداننا العربية.
ــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: هذه المقالة مبنية على مقالة للكاتب نشرت لاول مرةفي 7.4.2023 بعنوان "لماذا تفوقت سنغافورة في التعليم؟".
مقالات سابقة في هذه السلسلة:
التجربة البريطانية: https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386
التجربة الصينية: https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2
التجربة الكورية: https://www.almothaqaf.com/qadaya/977233-3
جميع التعليقات 4
د.علي محمد جواد الخطيب
منذ 3 شهور
حضرة الدكتور الفاضل والاستاذ الجليل محمد الربيعي المحترم احرص دوما على قراءة مقالاتك الاسبوعيه في جريدة المدى واني لمعجب حقا بخبرتك الواسعه ورغبتك الجامحه على النظر الى واقع التعليم في الدول المتقدمه واعتبارها اولوية لاغبار عليها في نهظة الامم
د.عبد الجليل البدري
منذ 3 شهور
اني اشاطرك هذا الاعجاب بروفسور محمد الربيعي. هل نستطيع اقناع المسؤل الاول عن سياسة التعليم في العراق بتبني هذا النهج الذي تطرحة من خلال هذه الحلقات وكل مقالاتك السابقةمن أجل تعليم يرفد المجتمع بكفاءات تلبي طموح الرصانة العلمية والاكاديمية.
افاق ابراهيم جمعة
منذ 2 شهور
ناكل ان يطلع مسؤولي التعليم في بلادنا على تجارب متميزة في العالم ،تعليمنا مهدد،الخريج في أقسام بعينها يجهل أدوات تخصصه،السلسلة مقنعة،علمها بسيط وسيفها قادر على عبور العالم العلماء العراقيين مهمشون غالبا،أسأل الحكومة ان تعلي شان التدريسي العالم وليس غيره
عبد العزيز يسري
منذ 2 شهور
السلام عليكم. أود الاتصال بحضرتكم لمناقشة موضوع التعليم في المغرب. و شكرا 212666950567+