أحمد الناجي
استطاعت المرأة العراقية أن تحقق تقدماً ملحوظاً في منحى نيل حقوقها المدنية والسياسية، بالتزامن مع فجر العراق الجديد الذي سطع بعد ثورة 14 تموز 1958، وأصبحت معالم مسيرة الإصلاحات في هذا الشأن واضحة الخطى، وتبدت ملامح المساواة بين الرجل والمرأة في القوانين حقيقة ماثلة على أرض الواقع، ويكفلها الدستور العراقي المؤقت الصادر مطلع العهد الجمهوري. وأتت في مقدمة تلك المسيرة بعض التحققات التقدمية،ولعل أبرزها كانت الخطوة المهمة، المتمثلة في اصدار قانون الأحوال الشخصية، حيث ألفت وزارة العدل بالأمر المرقم (560) بتاريخ 7 شباط 1959، لجنة من السادة: محمد شفيق العاني نائب رئيس محكمة تمييز العراق، وأحمد جمال الدين الحاكم الدائم في محكمة تمييز العراق، وعلي كامل المدون القانوني، ومصطفى جواد حاكم بداءة بغداد سكرتيراً لها، لغرض وضع لائحة الأحوال الشخصية، وقد استمدت مبادئها مما هو متفق عليه من الأحكام الشرعية، وما هو المقبول من قوانين البلاد الإسلامية، وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق. وبعد أن أكملت اللجنة عملها أعلن القانون المرقم 188 لسنة 1959بتاريخ 19 كانون الأول 1959. وكان خطوة متقدمة على صعيد تنظيم العلاقات الأسرية، والتقريب بين المذاهب الإسلامية، وتوحيد العمل القضائي في العراق، وبطبيعة الحال واجه معارضة القوى التي ناصبت العداء لثورة 14 تموز، واقترنت بمؤازرة دينية بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية.وما ينبغي الاشارة اليه هنا أن هذا القانون لم يكن مكسباً كبيراً للمرأة العراقية فقط، بل للأسرة بصفة عامة، وفي المحصلة منجزاً للمجتمع العراقي بأكمله، وتمثلت الأهمية الفائقة لهذا الانجاز المتحقق عند ذلك المفصل التاريخي، إذ سبقته محاولات غير ناجحة في العهد الملكي، فقد جرت محاولة لإصدار قانون الأحوال الشخصية سنة 1933، ووضعت لائحة لهذا المشروع، بدلاً من قانون دعاوي العشائر، غير أنها تعثرت، ومن ثم جرت محاولة أخرى سنة 1945، عندما أصدرت وزارة العدل أمراً بتشكيل لجنة من أربعة أعضاء مهدت لوضع لائحة، إلا أنها كذلك تعثرت، ولم يصدر القانون.
تمثلت نضالات المرأة العراقية في أشواط مضنية، بدءاً من تعليمها.. مروراً بمشاركتها في الحياة العامة، وصولاً الى نيل حقوقها السياسية التي تلازم قضايا حقوق الإنسان، كانت بمثابة رحلة شاقة وحافلة بحالات متضادة في ظل الصعود والتراجع، امتدت الى عدة عقود قطعتها المرأة (صحبة أنصارها)، سيراً على جمر التحديات خلال النصف الأول من القرن العشرين، وينكشف صداها في أفكار الناس المتقاطعة بسبب اشكالية الجديد والقديم، وعاشت وسط أجواء الصراع المليئة بالجدل والمشادات(التي لم تخمد حتى الآن)، ولابد من الإقرار بأن التشارك بين العوامل الذاتية والموضوعية كان مولداً قوياً للمسببات التي أسهمت في تبلور الدوافع، وتيسير المضي قدماً نحو قطع أشواط محدودة من التقدم في مسيرة تحرير المرأة (لا تنجز بين ليلة وضحاها)، والتي لا تزال سارية حتى الآن (وتحتاج الى جهود كبيرة)، نشداناً الى القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (الذي يجيء تدريجياً)، بغية استكمال نيل حقوقها، بالاتساق مع التطورات العديدة التي تطال الحياة في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كرست المرأة العراقية تاريخاً من المواقف المشرفة في كثير من مجريات الأحداث، طوال تاريخ العراق المعاصر، بدءاً من المشاركة في أحداث ثورة العشرين، التي شكلت منطلقاً في إسهامات المرأة العراقية، مروراً بمعترك العمل السياسي مطلع الأربعينيات، والموقف المناصر للقوى الوطنية أثناء حركة مايس سنة 1941، وتفاعلها المشهود إبان وثبة كانون سنة 1948، وما تلاها من انتفاضات شعبية، ومواقف وطنية عديدة خلال سنوات عقد الخمسينيات.
لقد سطرت المرأة العراقية اسهامات مشهودة في كافة تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية، فهي التي تصدت للعمل الاجتماعي والسياسي منضوية في جمعيات نسائية وأحزاب وطنية، معاضدة الأخ والزوج في التكافل الاجتماعي، وفي نضاله الوطني، معبرة عن دورها في مقارعة الاستعمار إبان العهد الملكي، نقلت الفكر والثقافة في مداركها مثلما نقلت البريد الحزبي بين ثناياها، عانت وكابدت في أحلك الظروف، تركت الدراسة والوظيفة، واضطرت الى الاختفاء بسبب المطاردة، وتعرضت للاعتقال والتعذيب، وليس أدل على تضحية المرأة العراقية من ذلك السفر الناصع المشرف والمديد للباذلات بأرواحهن من الشهيدات اللائي يزخر بهن تاريخ العراق الوطني.
تطورت أحوال المرأة العراقية تطوراً ملحوظاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومما يلفت النظر أنها في السنوات اللاحقة سارت على نحو متسارع، من حيث تعليمها الذي وصل بها الى حد تحصيل أعلى المراتب والاختصاصات العلمية، وبالمقابل زاد تقبل المجتمع للدور الفعال الذي تؤديه المرأة، مما وفرت الظروف التي مر بها البلد شتى فرص العمل لها في مختلف مجالات الوظائف الحكومية، كما عزز هذا من نيل مكانتها وسط المجتمع، وإسهامها في مجمل حقول الحياة الاجتماعية والشؤون السياسية، وحديث الدكتور الورديفي هذا الجانب خير دليل على ذلك، حيث رصد تصاعد منحى وضع المرأة خلال العقود الثمانية الأولى من القرن العشرين،ويرى أنه قد تغير "تغييراً كبيراً جداً من حيث تعلمها سفورها خروجها من البيت دخولها الوظائف الحكومية وبعض المهن الأخرى. هذا ولكن القيم والتقاليد المحيطة بالمرأة لم تتغير بمثل تلك الدرجة، وربما يصح القول أن بعض تلك القيم والتقاليد بقي على حاله لم يتغير". ولكن على الرغم من كل هذه المظاهر الايجابية، بقيت رؤية الوردي في تلك الأثناء بعيدة عن كل غشاوة، تحسب ألف حساب للنمو ممكنات التراجع، وتخشى من النكوص الاجتماعي، لكونه يرى أن المرأة العراقية واقعة في كماشة التناشز الاجتماعي، فهي بعد أن تعلمت وخرجت من البيت صارت تطمح أن تكون كالمرأة الأوروبية في جميع معالم حياتها، ولكن القيم الاجتماعية المحيطة بها تمنعها من ذلك، إنها واقعة في مأزق بين تيارين متناقضين: تيار الحضارة الذي يدفع بها الى الأمام من جهة وتيار القيم القديمة الذي يسحبها نحو الخلف من الجهة الاخرى.
مهما يكن الحال، فقد بدا المشهد وردياً بالنظر الى كل ما تقدم من انجازات لصالح المرأة، لكن الشواهد تشير بعد نشوب الحرب العراقية - الإيرانية الى حصول نكوص وانقلاب في الضوابط الاجتماعية على نحو تدريجي، تعمق شيئاً فشيئاً بعد فرض الحصار الجائر على البلد مطلع التسعينيات، وزاد التراجع القهقري في أعقاب التغيير السياسي بفعل العامل الخارجي (الاحتلال الامريكي) الذي تمخض عنه نهاية نظام الحكم الديكتاتوري سنة 2003، فأصبحت الأجواء غائمة وملبدة، وما لبثت أن خيمت السحب السوداوية الآتية من أزمنة الماضي الفائتة، فهيأت بما راحت تنثه كافة الظروف الملائمة لإنبات القيم والأعراف والتقاليد الاجتماعية التي لا تتناسب مع الواقع المتطور، ولا حتى مع درجة التقدم التي وصلها المجتمع بكل مكوناته، والمرأة بضمنه، وكما يقول الدكتور رشيد الخيون عاد حال نساء العراق، في ظل سطوة المتجاهلين لطبيعة المجتمع العراقي الى بداية القرن العشرين، فالمعركة جرت، وما زالت جارية بين دعاة السفور والحجاب، لكن ليس عبر الشعر والأدب والصحافة، وإنما أخذت طابعاً آخر.
إزاء ذلك كله، لا عجب إذا ما رأينا أن واقع المرأة العراقية بات مؤسفاً على الصعيد العام، الأمر الذي جعلنا نرصد محاولات متعاقبة لاستلاب حقوقها، لأن الظروف الاستثنائية وجدت أصداء لها في الأعراف القبلية/ العشائرية، فاستعادت من الظواهر الاجتماعية ما كان مقصياً خلف مظاهر الحضارة.ولكي نبعد ظنون بعضهم بكون وجهة نظرنا مفرطة في التشاؤم، يبقى في تصورنا التذكير بالعودة الى منطق الأمور، والحياة مثلما تبيح النكوص، فإنها أيضاً تنزع باطراد نحو التصاعد والتطور المستمر. وبوسعنا استحضار بداهة ساطعة، والقول بثقة: أن القديم لا يرجع جديداً مهما تلبدت الأجواء. ولا الحال يبقى على ما هو عليه، ويحق لنا بعد ذلك أن نستدعي الأمل، ونكون متفائلين، ومما يزدنا تفاؤلاً إيماننا بأن الإنسان يولد حراً، وقوة الحياة في كيانه تدفعه على الدوام لكي يمارس هذه الحرية غصباً عن أنف كل المعوقات، وعلى الرغم من مكر التاريخ، فأن الأزمة الاجتماعية الناجمة عن دوافع الامتثال الى الماضي ستأخذ وقتها وتمر، وأن الفعل الإنساني هو الذي يحكم استمرار التقدم.
جميع التعليقات 1
جليل الجباوي
منذ 3 شهور
مقالة رائعة وجريئة.. جزيل الشكر والامتنان للباحث الناجي