TOP

جريدة المدى > عام > المعماري خالد السلطاني وذكرياته عن غائب طعمه فرمان

المعماري خالد السلطاني وذكرياته عن غائب طعمه فرمان

نشر في: 9 سبتمبر, 2024: 12:07 ص

د. زهير ياسين شليبه
كان المهندس المعماري الدكتور خالد السلطاني يجلس أمامي على أحد مقاعد مقهى فيفالدي الكائنة في مركز مدينة روسكيلدة القديمة منشغلاً بكامرته! وبينما كنتُ أتطلّع بوجهه، عدتُ بذاكرتي إلى عام 1976، متذكراً لقائي الأول به صدفةً في موسكو، ومرّ في خيالي فجأةً زميله المهندس "وديع" واسم آخر ذائع الصيت أيام زمان بين أوساطهم "سعيد نفطجي"! لا بدّ أن له دلالته الشعبية العراقية بينهم!
وكان د. خالد السلطاني يحدثهم باهتمام عن أدب غائب طعمة فرمان مما أثار اهتمامي أكثر به وكنتُ قد انهيتُ السنة الثانية من كلية الآداب والإعلام في روسيا وأفكّرُ في كتابة "البحث السنوي" الأكاديمي عنه، علّني آتي بجديد بدلاً من اختيار موضوعاً قديماً من الأدب الروسي.
قبل عدة سنين استضافته جمعيتنا "أصدقاء عَبر الحدود"، التي كنتُ نائباً لمسؤولتها، بمناسبة إصدار كتابه الرائع عن أعمال المعماريين الدنمركيين في الشرق الأوسط!
والآن، وبعدَ جولةٍ طويلةٍ في المدينة، نجلسُ معاً أمام طاولة بمحاذاة نافذةٍ مطلّةٍ على ساحة تتوسطها نافورة محاطة بمبانٍ قديمةٍ مثل الكنيسة والبلدية، وأخرى حديثة مثل البنك الدنمركي، فنلاحظ التنوع الثقافي والتاريخي.
تنتشر في هذه الساحة كراسي ومناضدَ عديدة مزدحمة بزوّار المقهى، لا سِيّما أن الشمس زائرة محبوبة في هذه الأيام، تسطعُ اشعّتها على الوجوه الفرحة كالعادة في مثل هذه الأجواء، والدكتور خالد السلطاني يتطلع بوجهه الباسم وعينيه المتابعتين للمناظر المحيطة باهتمام.
وإذا أردنا أن نكتبَ عن هذا الطائر العراقي المحلّق في سماوات البلدان غير مبالٍ بغيومها، علينا أن نعودَ إلى طفولته التي قضّاها في الصويرة حيث وُلد، واضطراره "للرحيل" بعيداً عن والدته الحنون إلى الكوت للدراسة في إحدى ثانوياتها أيام العهد الملكي.
ولدَ الدكتور خالد في الصويره، وتعلّقَ بدفء والدته وحنانها، بالذات لأنه تيتّمَ مبكراً، وكان من عائلة فقيرة جداً، ومع ذلك سعت أمّه لإرساله إلى المدرسة، حتى أنهى مرحلَتَي الابتدائية والمتوسطة، ثم في إحدى ثانويات الكوت. وسكن "أبو وليد" هناك في القسم الداخلي ليجرب معاناة "الغربة" كما حدّثني عنها مبتسماً أثناء سرد ذكرياته رغم قسوتها ومرارتها، لكنك لتشعر بحلاوتها أحياناً في خياله من خلال طريقته في التعبير عنها.
وكان يشتاق جداً لوالدته لدرجة البكاء عليها، لكن الظروف كانت جيدة في القسم الداخلي من حيث السكن والغرفة والأكل، وعندما أنهى الثانوية حصل على منحة ماليّة قدرها 80 دينار.
وأنا شخصياً فوجئتُ حقّاً باستلامه لهذا المبلغ في العهد الملكي! ويتذكر الدكتور خالد هذه القصة ضاحكاً، أن صديقه قال له:

  • إن - راح أمشي وراءَك لمّا تستلم المبلغ من البنك حتّى ما يسرقها النشّاله منك!".
    سألته مندهشاً:
    ه مبلغ كبير آنذاك؟ صحيح؟ كيف تقبّلت والدتك الخبر؟
  • نعم، فعلاً مبلغ كبير، "نوطات أم الخمسة دينار" اشتريت كل الحاجات الضرورية لنا!
    ثم حصل على بعثة دراسية في الاتحاد السوفييتي عام 1959 ودخل الكلية التحضيرية لمدة سنة كاملة ليتأهل بعدها في الدراسة الجامعية لستّة (6) أعوام، وبذلك أنهى مرحلة الدراسة الجامعية الأولى عام 1966 وحصل على الدبلوم العالي التي تعادل الماجستير، وعاد إلى العراق حيث عمل في مؤسساته ثم سافر مرة ثانية إلى موسكو لدراسة الدكتوراه عام 1969 واكملها عام 1973 ورجع إلى العراق ليعمل استاذاً في كلية الهندسة 1974 أي أنه درس ستة أعوام في المعهد لنيل الماجستير وحوالي ثلاثة أعوام ونصف للحصول على الدكتوراه.
    عمارة الدامرجي!
    عندما سافر إلى موسكو توقفت الطائرة في فينّا‬، أعجبَ بها كثيراً، وبالذات ببناية الكنيسة العالية، وتذكرَ ما كان أهل الصويرة يقولون عن عمارة الدامرجي في بغداد: شاهقة، لدرجة أنك إذا نظرت إليها فإن عقالك سيسقط!
    فماذا سيقولون إن رأوا كنيسة فينّا؟
    ذكريات عن غائب طعمه فرمان!
    في موسكو التقى طالباً أقدم منه اسمُه خالد الزبيدي، من ولايته الصويرة، كان في الأصل معلماً متحمساً، وتوطدت بينهما علاقة طيبة. ومن خلاله تعرف على بعض الوجوه الثقافية المعروفة آنئذ مثل غائب ط. فرمان. سهرَ في احد الأيام معهم وكان فرمان ثملاً، فطلب منه صديقه خالد الزبيدي أن يوصله إلى شقته قرب محطة مترو أوونيفيرسيتيت (الجامعة)، استقبلتهما إنّا بتروفنا زوجة غائب، و"استلمت" غائباً منه، فقالت له ما معناه: لم يبقَ لنا إلاّ أن يوصلك شخص باكستاني إلى المنزل!
    في اليوم التالي، صباحاً جائنا غائب وسأل صديقي خالد الزبيدي عمّن هو الباكستاني، الذي أوصله إلى شقته؟
    فأخبره الزبيدي بأنَّ ذلك كان خالد السلطاني وليس باكستانيًا، كما ظنّت زوجتُه، وغرقنا جميعاً في الضحك!
    واستمر قائلاً:
  • وفي مرة أخرى كنت أقرأ بعض قصص غائب، فقال لي صديقي خالد الزبيدي "هذه القصص أنا حكيتها له"! وهنا قاطعتُ الدكتور خالد السلطاني سائلاً إيّاه:
  • هل تتذكر أي كتاب؟ أي مجموعة قصصية؟ في ذلك الوقت لم ينشر غائب غير "حصيد الرحى" عام 1954 أما "مولود آخر" فأصدرها بعد الثورة. أجابني:
  • لا أتذكر بالضبط، قد يقصد، خالد الزبيدي، أنه لاحظَ بعض التشابه بين حكاياته الشخصية له وبعض المقاطع.
    أجبته:
  • بالتأكيد، إنه قصد قصصه الستينية أو قصته "سليمة الخبّازة" التي طوّرها إلى رواية "النخلة والجيران" ونشرها في الستينات، ولأن أول رواية لغائب هي "النخلة والجيران" أصدرها عام 67،
    قبل سفره خارج العراق لم يرَ الدكتور خالد من بغداد شيئاً غير موقع الإذاعة العراقية، لأنه كان معجباً بالإعلام.
    يقول د. خالد عن هذا الأمر:
  • بعدها صرنا نلتقي في مقهى داخل هوتيل موسكو المشهور وكان يحضرها عبد الوهاب البياتي وخالد الزبيدي وصديق غائب اسمه مجيد بكتاش، وأنا كنت أحبُّ الاستماع إلى أي حديث عن بغداد، بالذات مجيد بكتاش المولع بحكاياته عن منطقته الفضل والمهدية في مدينته بغداد، فكان كل ما يقول شيئاً عنها أو يذكر اسم منطقة معينة أو شارع، أسألُه مقاطعاً كأني أباغتُه: هل هذا يقع جنب الإذاعة؟ وفي إحدى المرات وأثناء كلامه عن شوارع بغداد والمهدية تحديدًا سألتُه أين تقع؟ قرب الإذاعة؟ فردَّ عليَّ قائلاً: إذا مرّه ثانية تسأل: "هذا جنب الإذاعة؟" راح أشق هدومي!"المهدية وين؟ والإذاعة وين؟!، وانخرطنا في الضحك.
    لم أكن أعرف بغداد جيدًا، كنتُ مغرماً بالإعلام ولهذا تمنّىتُ رؤية الإذاعة كما اخبرتك سابقاً، ولهذا وجدتُ نفسي متجهاً نحوها، عبرتُ الجسر نحو الصالحية، ألقيت عليها نظرة وتركتها مكتفياً بذلك، وشعرتُ بالسعادة.
    نكتفي بهذا القدر، لا سيما وأن الكاتب هاشم الشبلي كتب عنها الكثير في مذكراته وعلّق الدكتور خالد السلطاني عليها متحدثاً باستفاضة عن أحياء بغداد القديمة التي لم يكن يعرف عنها الكثير، لكنه صار أستاذاً بها يحدثُ طلابَه في كلية الهندسة عن حاراتها وأزقّتها.
    ونترك حديثنا الباقي عن كنيسة مدينة روسكيلده وبناياتها القديمة، بدءاً من المحطة إلى الدير والبلدية والسجن ومركز الشرطة القديم وغيرها، لكننا لم ننسَ أن نمرَّ بالخابيات الثلاث الضخمة لدرجة أننا توقفنا عندها لفهم في أية ورشة تم إنجاز عملية فخرها!
    وهكذا وصلنا إلى نهاية لقائنا وأحاديث الدكتور خالد لا تُمل، تتخلّلها ذكريات الدراسة في الاتحاد السوفييتي في الستينات والسبعينات و العمران والثقافة. وبعض الطرائف! منها أنه قال لي: لم تكن لديهم آنذاك ثقافة ارتياد المقاهي، تَصوّر، كانت النادلة تستغرب لقاءاتِنا في المقهى، وتسألنا: ما عندكم شغل؟!
    وتوادعنا على أمل اللقاء في مناسبة أخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

انطلاق المعرض السنوي السادس والأربعين للجمعية العراقية للتصوير

العلاق: عدد المتقدمين لتأسيس مصارف رقمية في العراق تجاوز الـ70

القبض على إرهابي في كركوك

مدينتان عراقيتان في قائمة المناطق الأعلى حرارة بالعالم

فرد حجاية| عن الكهرباء ومتى توفرت أول مرة في بغداد

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

شخصيات أغنت عصرنا . . الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف

موسيقى الاحد: بوكستهوده في هلسنيور

المعماري خالد السلطاني وذكرياته عن غائب طعمه فرمان

متحف ليف تولستوي يستضيف دارسيه ومترجمي أعماله للغات الأجنبية

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

مقالات ذات صلة

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة
عام

الثورة الرقمية تجتاح الجامعات المرموقة

لطفية الدليميجويس كارول أوتس واحدةٌ من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة تمتد لعقود طويلة. قرأتُ لها العديد من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب بل شخص متعدد الانشغالات: أستاذة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram