ستار كاووش
لا يمكنك أن تكون في زيارة لشمال فرنسا دون التفكير بالذهاب الى متحف (لا بيسين)، لكن بضع ساعات لا تكفي لمشاهدة كل التفاصيل، لذا فالأفضل أن يمنح الزائر نفسه وقتاً جيداً للإطلاع على كنوز هذا المتحف الفريد، والذي يضم الكثير من اللوحات واعمال السيراميك والمنحوتات وأعمال الزجاج والأزياء وأعمال التصميم والزجاج المعشق بالرصاص، ويُضاف الى كل هذا، البناء الفريد للمتحف والذي تم تصميمه على طراز الآرت ديكو. إنطلقتُ من محطة مدينة ليل، في القطار الذاهب الى بلجيكا، وقبل أن يعبر الحدود ترجلتُ في محطة مدينة روبيه، ومن هناك مضيت نحو مركز المدينة، وعند شارع لا سبيرانس ظهر المتحف بواجهته المرتفعة الغريبة، حيث لمحتُ صورة أحد أعمال ديغا النحتية مع مجموعة أخرى من اللوحات الأخرى التي تتصدر واجهة المتحف المرتفعة. لكن هل كان هذا المتحف مسبحاً حقاً؟ قبل أن يتحول الى هذا الجمال الأخاذ؟ كيف صار حوض السباحة وما يحيط به متحفاً؟ ومن الذي قام بذلك، وما هي الظروف التي أدت الى التحول من الغطس في ماء السباحة الى الانغمار بجمال الفن؟
قامَ المهندس المعماري ألبرت بارت بتصميم هذا المسبح، وتم إفتتاحه رسمياً في مدينة روبيه سنة ١٩٣٢ ليكون مسبحاً عاماً يرتاده أغنياء المدينة وفقراءها، وهي الفكرة التي دعمتها بلدية المدينة كي تُلغي التفرقة بين طبقات الناس. وقد نجحت الفكرة نجاحاً باهراً وقتها، وصارَ هذا المسبح بهيئته الفريدة، واحداً من أهم وأجمل مسابح أوروبا المفتوحة. لكن مع مرور السنوات كانت هناك حاجة لصيانة السقف، فتوقف العمل به مؤقتاً، ثم إنقطع نهائياً سنة ١٩٨٥، ليتم تحويله الى متحف لمدينة روبيه التي كانت لديها مجموعة فنية هائلة موجودة في أماكن ومجاميع مختلفة، لتضع كل ما لديها في هذا البناء الجميل، وقد إكتمل نجاح المتحف بعد أن حصلَ على مجموعة من العطايا من المتحف الوطني للفن الحديث والصندوق الوطني للفن المعاصر، يضاف الى ذلك مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية الرائعة التي حصلَ عليها كمُنحة من متحف أورسيه (المفارقة أن متحف أورسه ذاته كان في الأصل محطة قطار قديمة، قبل أن يتحول أيضاً الى واحد من أهم متاحف فرنسا والعالم).
دخلتُ الى المتحف الذي يمكن التمتع برؤيته حتى دون أعمال فنية، لأنه من فرط جمال البناء والتصميم يمكنك أن تقضي يوماً كاملاً تتجول بين التفاصيل المدهشة. توجهتُ أولاً نحو حوض السباحة الكبير الذي مازال قائماً بسقفه المقوس والشرفات الطويلة التي تحيطه من كل الجوانب، والتماثيل المذهلة التي إصطفتْ على جانبيه، وكإنها تستعيد حركة الناس الذين كان يملؤون المكان بضجيجهم في سنوات بعيدة صارت جزء من التاريخ. عشرات التماثيل لفناني فرنسا والعالم أمثال أوغست رودان وسيزار لابيني وفرانسوا بومبون وفيليب ويلفرز وغيرهما من صنّاع الجمال. وفيما أنا أتجول بمحاذاة التماثيل، إنتبهتُ للمقصورات الصغيرة التي تحيط بحوض السباحة والتي كانت تستعمل للاستحمام بعد السباحة، وقد تحولت هنا الى قاعات صغيرة تضم أعمال السيراميك التي تتصدرها أعمال بيكاسو.
مضيت متجولاً بين أرجاء المكان، فرأيتُ كيف أن كل لمحة وزاوية وتفصيل صارت فناً يُريح القلب ويمتع البصر. صعدتُ الى الطابق العلوي حيث المقصورات التي كانت في السابق تستعمل للاستراحة وتناول بعض المشروبات ومشاهدة المسبح من الأعلى، ومن هناك شاهدتُ كيف سطعتْ النافذتين العملاقتين بلونهما الأصفر وشكلهما نصف الدائري، واللتان تنتصبان شمال وجنوب الحوض وتنعكسان على الماء وكإنهما شمسان عملاقتان تتوسدان ماء السباحة. ومن خلال هاتين النافذتين رأيت الشكل الأمثل لفن الآرت ديكو.
تركت حوض السباحة خلفي ومضيتُ داخل المتحف، وما أن وضعتُ قدمي في أحدى الصالات، حتى فاجئني شخص ضخم يرتدي ثوباً مهلهلاً ويجلس بثقة واسترخاء، ملتفتاً نحوي وقد أنارَ ضوء النافذة نصف وجهه، حتى خلته يريد القول (ماذا تفعل هنا؟)، ولم يكن هذا الرجل سوى عمل نحتي للفنان أنتوني إيتيكس، وهو عبارة عن بورتريت للرسام العظيم أنغر، توقفتُ أمام تمثال زعيم الكلاسيكية الجديدة، ثم غادرته بهدوء، للتمتع بمشاهدة أعمال هنري مارتن التي جمع فيها كل تقنيات ما بعد الانطباعية، والتي قابلها على جدار آخر لوحة لوحة للفنانة تامارا لامبيسكا، وقد توسطت القاعة إحدى منحوتات الفنان ديغا. مضيتُ متنقلاً بين أعمال فنية ضمت الكثير من التقنيات والاتجاهات والأساليب، لأتوجه بعدها نحو أعمال السيراميك التي ضمت أشكالاً مبتكرة وغير متوقعة، حتى بدت تعجيزية في تصميمها وقوة ثباتها. أعمال الزجاج المعشق بالرصاص تأخذ مكانها هنا أيضاً حيث وُضِعَتْ في زوايا خاصة مع إنارة من الخلف، حولتها الى أقمارٍ صغيرةٍ تتوزع بين زوايا المتحف.
يوماً كاملاً قضيته بين جدران هذا المتحف الفريد، وخرجتُ بعدها نحو ضوء المدينة، لتنكشفَ أمامي الشوارع التي إبتَلَّتْ بفعل المطر الذي توقفَ لحظة خروجي. سرتُ بضع خطوات، ثم إلتفَتُّ نحو واجهة المتحف وكأني أحييه وأُلَوِّحُ للجمال الذي منحه لي، ثم أكملتُ طريقي على الرصيف الذي إلتمعتْ أحجاره الرمادية، متجهاً نحو وسط المدينة.