TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مقالة إخوان الصَّفا: القائل والعاقل

مقالة إخوان الصَّفا: القائل والعاقل

نشر في: 19 سبتمبر, 2024: 12:02 ص

رشيد الخيون

تضاعفت الأقوال المسموعة على مدار الساعة، والقلة ممَن يخضعها لعقله، كي يميز الغث مِن السَّمين، وبقدر ما نفعت التكنولوجيا، الفكر النير، خدمت الجهل، لأنها تُدار بيد الإنسان، إذا كانت يد عاقل أو يد جاهلٍ، وبهذا تُعد منارة عقلٍ، أو مفرخة جهلٍ، حسب إدارتها.
تجد أطباء العلاج بطرد "الجن" لهم جمهورهم الغفير، وهؤلاء خدمتهم التكنولوجيا بمواقع وفضائيات، بينما قبل ألف عام قيل: "مِن بركة المعتزلة أنَّ صبيانهم لا يخافون الجن"(التَّنوخي، نشوار المحاضرة)، لأنهم أخضعوا القول للعقل، واليوم تتهافت الملايين على الهذيان، يُقدمه الوعاظ بعبارة "ورد في رواياتنا"، وآلاف الأقوال تنسب لأئمة وعلماء كذباً.
وقف إخوان الصَّفا(الرّابع الهجريّ) إزاء الظَّاهرة، وكأنهم عاشوا عصر وسائط التواصل اليوم، وما يغرف لها مِن أقاويل ليست على أساس، فأكدوا حكم العاقل لا القائل: "الإنسان قادر على أنْ يقولَ خلافَ ما يعلم، ولكنْ لا يقدر أنْ يعلمَ خلافَ ما يعقل، وذلك أنه يمكنه أنْ يقول: زيدٌ قائمٌ قاعدٌ، في حال واحد، ولكنْ لا يمكنه أنْ يعلم ذلك، لأنَّ عَقله يُنكرُه عليه. فما كان هذا هكذا. فلا ينبغي أنْ ينزلَ بالحكمِ على قولِ القائلين، ولكنْ على حكمِ العقولِ"(الرّسالة 13 من القسم الرّياضي).
لاحظ إخوان الصَّفا ما يمارسه القصاصون، وهو يجوبون الطُّرقات لبيع الهذيان، فدخلت أطنان منه إلى الأديان والمذاهب. لذا قالوا في رؤوس الجهل: "إنَّ قوماً من القصَّاصين وأهل الجدل، يتصدرون المجالسّ، ويتكلّمون في الآراء والمذاهب، ويناقضون بعضهم بعضاً، وهم غير عالمين بماهيتها، فضلاً عن معرفتهم بحقائقها، وأحكامها، وحدودها، فيسمع قولهم العوام، ويحكمون بأحكامهم"(الرسالة الأولى في الآراء والديانات).
شاهدتُ أحد الوعاظ، يتهم "الفيسبوك" بالكذاب، لأنَّه أحرجه بنشر جهالاته في الأقوال، وهو نفسه لا يتحرج مِن نشر غير المعقول فيه. إنها منصةٌ هائلهٌ في نقل القول، بلا خضوع لغربلة، فمن يقول زيدٌ قائمٌ وقاعدٌ في الوقت نفسه، يفسره للعوام بالكرامة، لأنّ العقول مرهونة عند مَن يقلدونه، في الدُّنيا والدِّين، وقد أشير إلى قصاصٍ صاحب منبر: "وكان مِن مشاهير الوعاظ، الذين يحسنون الهيمنة على شعور العوام"(الخاقانيّ، شعراء الغري).
فالعوام هم ضالة القصاصين، جمهور غفير لا يعرف اليمين مِن اليسار إلا بتقليد، ليس صعباً على القصاص إقناعهم بتأخير غروب الشَّمس أو شروقها بكرامة مِن الكرامات، فما هو حجم مصلحة هؤلاء إبقاء الجمهور جاهلاً؟ فالإنسان "لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم"(الجاحظ، البيان والتبيين)، والتَّعليم عندما توجهه منابر القصاصين، يُحقق ما نرى ونسمع مِن فضائع.
ما حذر منه إخوان الصّفا، قبل ألف عام، يمارس مِن على أرقى اختراع اليوم، حتَّى صار الجهلُ صناعةً، والهذيان يحل محل العلم، ولا يهم التّحقيق، مع أنّ "كلَّ كلام على غير أصل، هذيان لا تحقيق له"(الرَّسالة الأولى في الآراء والدِّيانات).
نأتي بمثالٍ تطبيقي، على ما نبه إليه إخوان الصَّفا، في القائل والعاقل، وهو ما تُحارب ضد تنفيذه الأمهات اليوم، يقول فقهاء: "لا يجوز وطء الزَّوجة قبل إكمال تسع سنين"، فيجوز العقد للرضيعة، فهل يُحكم بهذا القول، مع أنه ليس مِن بنات العقل؟! محال يقبله عاقل، وبالتالي يكون هذياناً، الهذيان القاصد هتك الطّفولة، باسم الدِّين. فطوبى لإخوان الصّفا تركوا حِجَّةً فلسفيَّة، نجادل بها غرائب زماننا.
مثّلَ إخوان الصّفا في تمييزهم بين القائل والعاقل نهضةً في قياس زمانهم، سرعان ما خفتت، وظلت رسائلهم جذوةً يُستضاء بها، عند المميز بين النُّور والظّلمة، أمّا الآخرون، "ممَن يسمع قولهم العوام ويحكمون بأحكامهم" فأبو الطَّيب(قُتل: 354 هجريَّة) يقول: "وما انتفاع أخي الدُّنيا بناظره/ إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلمُ"(العُرف الطَّيب).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram